Monday, 25 April 2016 - 1:00am
لم تمثّل الإبادة ولا المجاعة ولا التهجير مدخلاً للإحباط والإنكسار، لقد دبّ «الإجرام العثماني» نبض الاستمرار والحياة في جحافل الأرمن النازحين هرباً من سيوف الذبح. في لبنان بنى الأرمن مدارسهم، وأسّسوا للبعيد. إنهم شعبٌ يعنيه الماضي، تمسّك به ومضى نحو غد وفيّ لشهدائه وجراحه
فيفيان عقيقي
يتذكّر الأرمن تاريخهم، يعلمون أنهم شعب حافظ على لغته وثقافته، وطالب وما زال بعدالة وحقوق اغتصبها «الأتراك العثمانيون» ثمّ أصرّوا على التنكّر لها. لا يخجلون من تهجيرهم، ولا من الذلّ الذي عانوه. الجرائم المرتكبة بحقّهم موثّقة بصور حفرت في ذاكرتهم.
مشاهد تمرّ أمامهم كما لو أنهم عاشوها فعلاً منذ مئة عام وعام؛ النساء المغتصبات والمصلوبات، الأطفال المكدّسون أمواتاً على هامش الطرقات، الشعب الذي مشى جائعاً أميالاً نحو المنفى. أرمن من دون تمييز في الجنس والعمر دفعهم الجوع إمّا للبحث عن قوت بين أوساخ الحيوانات وبقايا النفايات، أو الاستسلام للجلد والتعذيب والذبح. صور جرائم لن ينسوها، جعلتهم أوفياء للقضية.
رغم النكسة يُفاخر الأرمن بأنهم شعب حرس الذاكرة، وحافظ على الهوية، ولم يتخلَّ عنها، وله وحده الفضل في ذلك. عام 1915 وبعد أشهر من نزوحهم إلى لبنان، لملموا بقاياهم، عضّوا على جراحهم، ونهضوا من جديد. رغم الفظائع التي ارتكبت بحقّهم، قرّروا الاستمرار. أبوا أن تُفقد ذاكرتهم. بنوا بيوتاً واستقرّوا فيها، وشيّدوا على مقربة منها كنائس ومدارس حافظت على هويتهم.
على كلّ جدار من جدران المدارس الأرمنيّة، وفوق طاولات الدراسة، وفي ملاعب اللهو، هناك ما يُذكّر بالاضطهاد والظلم. هناك تعبق رائحة الجثث من الأحجار، هناك روح أرمنيّة دائمة الحضور، هناك ما يعرّفهم إلى هويّتهم ويدعوهم للمحافظة عليها؛ لا يخلو بهو في المدارس من رمّانة ترمز إلى عزيمتهم التي لم تقهر، رمّانة اقتات أجدادهم بحبّاتها وارتووا من مائها في طريق التهجير الطويلة نحو صحراء «دير الزور». رقم المليون ونصف المليون مرئيٌ أينما كان، صور الشهداء المعلّقة تشدّ العصب والشعور بالمظلوميّة، تذكّرهم بأهميّة الأرض وتدعوهم للحفاظ عليها، ولو كان الموت الثمن. حتى المنحوتات المعروضة تتحلّى بذاكرة لا يمكن محوها، ترتسم عليها جبال آرارات المسلوخة، وجثث الأجداد، وملاحم التعذيب والجوع، وصلبان الاغتصاب، ومشانق الاضطهاد: صور رمزيّة تُحفر في اللاوعي منذ الروضة، فتخلق روحاً أرمنيّة غاضبة، وتبني ذاكرة جماعيّة معذّبة لا تنسى وتأبى الغفران، فهي لن تتجاهل جرائم ارتكبت على مدار أعوام، ولن تنفكّ تطالب بعدالة ما زالت ضائعة.
أفكار وتواريخ تُتناقل من جيل إلى جيل، وتطبع في ذاكرة جماعيّة، فتولّد عشقاً استثنائياً لبقعة من الأرض ارتوت دماءً ومسمّاة أرمينيا. «على أولادنا أن يستلموا القضية من بعدنا، على الأجيال الأرمنيّة أن تحفظ الهويّة، وأن تنقل التاريخ، وأن تذكّر بالإبادة. ويبدأ كلّ ذلك من المدرسة»، يقول زُهراب غازريان مدير مدرسة «يغيشه مانوكيان» التابعة لمطرانية الأرمن الأرثوذكس لـ»الأخبار». يتابع: «كلّ المدارس الأرمنيّة تلتزم المنهج اللبناني، وتضيف إليه اللغة الأرمنيّة بدءاً من صفوف الروضة، ثمّ التاريخ والثقافة الأرمنيّة في الصفوف الأساسيّة، إضافة إلى النشاطات التي تميّز شعبنا مثل الرقص والشطرنج والرسم والنحت. الثقافة والتاريخ يجعلان الشعب متماسكاً، وخصوصاً الشعب الأرمني الخائف على هويته من الضياع منذ أيّام العثمانيين».
تعريف التلاميذ إلى الأدب والشعراء والكتّاب الأرمن يدخل أيضاً ضمن المنهج الدراسي، يضيف ديكران جمبشيان مدير مدرسة «جيماران» التابعة لجمعيّة هاماسكايين لـ»الأخبار»: «في 24 نيسان عام 1915، جمع العثمانيون حوالى 300 من الكتّاب والمثقفين والنواب الأرمن وذبحوهم. قضوا على رأس المجتمع قبل أن ينقضّوا على شعب بأكمله، لذلك نعلّم تلاميذنا الأدب والثقافة لأنهما جزء من الحفاظ على الهوية وأساس وجودنا. كلّ تلميذ أرمني يدرك أن بلده كان أول من اعتنق الدين المسيحي، وأن وجوده يعود إلى 4000 سنة ولما هو موجود في لبنان، ويعلم أن أجداده حاربوا في سبيل الحريّة والعدالة».
عام 1998 صدر مرسوم بإضافة اللغة الأرمنية إلى مناهج التعليم، لكن المرسوم لم يطبّق
هناك 25 مدرسة أرمنيّة في لبنان، بعدما كانت أكثر من ستين قبل الحرب. يقول جمبشيان ان «أولى المدارس تأسّست عام 1915 في بيروت وحملت اسم «سان نيشان». تلقى الأرمن وبحكم وجودهم القديم في لبنان منذ القرن التاسع عشر، مساعدات من الأحزاب التقليديّة الأرمينيّة (الطاشناق والهانشاك والرامغفار)، بعد التهجير والإبادة، نظّموا وجودهم، أنشأوا المدارس وشيّدوا الكنائس حفاظاً على خصوصيتهم. في السياق، يقول غازريان: «لدينا مدارس تابعة للطوائف؛ 9 لمطرانيّة الأرثوذكس، 5 للكاثوليك، و5 أُخرى للأنجيليين، تتوزّع بين المتن وبيروت وعنجر وطرابلس، بقع انتشار الأرمن في لبنان. هناك أيضاً 3 مدارس تابعة للجمعيّات الثقافيّة بالتساوي بين الأحزاب. إضافة إلى المدارس التابعة للجمعيّة الخيريّة العموميّة الأرمنيّة (AGBU) وعددها ثلاثة بين أنطلياس وضبيه وحرش تابت». أمّا نفوذ الأحزاب فيها فيتمظهر بتعيين مديرين محسوبين عليها.
في عام 1998 صدر مرسوم تعديل المناهج، وشمل إضافة لغة ثالثة أجنبيّة إلى اللغتين الفرنسيّة والإنكليزيّة، كان من الممكن أن تتيح تعليم الطلاب الأرمن في المدارس الرسميّة لغتهم الأمّ، إلّا أن المرسوم لم يطبّق. السبب بحسب جمبشيان هو «عدم توافر الميزانيّة. هناك أربع مدارس رسميّة في برج حمود، حيث التجمّع الأكبر للأرمن لكن طلابها لا يستفيدون من هذه الخدمات التعليميّة. أنشأنا مدرسة السبت التي تتيح تعليم اللغة الأرمنيّة لمن يرتاد المدارس اللبنانيّة الرسميّة والخاصّة».
عدد الطلاب الأرمن الذين يرتادون المدارس الأرمنيّة وفق غازريان يبلغ «حوالى 5000 تضاف إليهم بضع مئات من التلاميذ الأرمن السوريين النازحين، موزّعين على كافة المدارس مجاناً. يقابلهم عدد مماثل من التلاميذ الأرمن في مدارس لبنانيّة رسميّة وخاصّة، فكما كلّ اللبنانيين يزرح البعض تحت ضغوط الوضع الاقتصادي السيّئ». ويضيف: «تراوح أقساط المدارس الأرمنيّة بين الـ500 والـ3500 دولار أميركي، ثلاث مدارس تستفيد من مساعدات وزارة التربيّة، والمؤسّسات الباقية بعضها مكتفٍ ذاتياً، وأخرى تستفيد من المساعدات التي يقدّمها الرعاة، والمطرانيات والأحزاب، أو تموّل نفسها من النشاطات التي تقيمها سنوياً. مع الإشارة إلى أن مستوى التعليم في مدارسنا ممتاز، وتفوق نسبة النجاح في الشهادات الرسميّة نسبة الـ90%. لم يؤثر حفاظنا على هويتنا في مستوى التعليم أو اندماجنا في المجتمع اللبناني».
لا شكّ أن المدرسة لم تكن الخلية الوحيدة التي حافظت على هوية الأرمن، أدت الكنيسة دوراً مماثلاً، إضافة إلى الأحزاب والنوادي الرياضيّة والجمعيّات الثقافيّة التابعة لها. يؤكّد جمبشيان أن «التعاون موجود بين كلّ المدارس، واللقاءات دائمة لتطوير المناهج ومواكبة التكنولوجيا، أو إضافة مواضيع تتعلّق بالقضية الأرمنيّة والتطوّرات السياسيّة، كما عند بروز أزمة أرتساخ (كاراباخ) مؤخراً». أمّا غازريان، فيؤكّد أن «لكل حزب ونادٍ وجمعيّة دورها في تنمية الشعور القومي، لكن تبقى المدرسة الأهم لأنه منها يتخرّج سياسيو وكهنة المستقبل الذين سيندمجون في الكنائس والأحزاب». ففي المدرسة يتعلّم الأرمني اللغة والتاريخ والثقافة نظرياً، في عمر الست سنوات تستقطبه الكشافة لتعلّمه الانضباط والقوانين والمبادئ الاجتماعيّة، وفي سن الخامسة عشرة ينضوي في شبيبة الأحزاب حيث يتعلّم التربية الحزبيّة، ويبرمج فكره على النضال وأهمّية الأرض.
FBO الأخبار مجتمع مدني