Thursday, 16 June 2016 - 1:00am
انقضت ايام على قرار وزير التربية الذي قضى على ما تبقى من شبه حضور هزيل للفسلفة في المنهاج. انبرى المعنيون بالأمر يبثون ضيقهم ومخاوفهم من هذا الإجراء المفاجئ، عبر شبكات التواصل الإجتماعي، واقتصرت ردات الفعل على الخشية من انعكاس تقليص المادة سلبا على عدد ساعات تعليم الأساتذة في المدارس، واعتبر بعضهم أن اختصار محتويات المادة إلى نصفها، ربما يكون تمهيدا لإلغائها في المستقبل، وذهب البعض الآخر إلى شجب القرار من ناحية وتأييده من ناحية أخرى، بحجة أن المادة- كما هي مقرّة في المنهاج اللبناني- سمجة، بليدة، غير عصرية، ثقيلة على ذهن الطالب وفهمه
الزهراء سهيل الطشم
قرار وزير التربية الياس بو صعب حذف محاور من مادة الفلسلفة في شهادة الثانوية العامة طرح تساؤلات عدّة: هل تعالج هشاشة المادة وفقرها في المنهاج بإجراء يؤدي إلى اضمحلالها وتهميشها؟ هل نواجه أزمة تعليم الفلسفة بمزيد من التأزيم الذي يطيح بها؟ هل الحل هو في تهزيل المادة ومضامينها الذي من شأنه أن يعمّق الإغتراب بين الفلسفة وتقبّل المجتمع لها، خصوصا لدى النشء الجديد الذي يتوقّد ذهنه بالأسئلة المتمردة والمتفلتة من المألوف، هذا التمرّد الذي لا يصقله إلا النقد كخاصية جوهرية من خاصيات التفكير الفلسفي؟ وإذا كانت الفلسفة كما هي في المنهاج لا تفتح قابلية المتعلم على هضمها واستيعابها، فهل نتخلص من عبئها بأن نشوّه صورتها؟ هل نجعل الفلسفة تستقيل من دورها في شحذ الحس النقدي المتسائل، وتنمية بذور التفكير العقلي الذي يقارب القضايا والمسائل بعيدا عن التعصّب والإنغلاق؟ وهل أزمة تعليم الفلسفة في المنهاج اللبناني منبثقة من الفلسفة ذاتها كمجال معرفي يتفرّد بخصوصية إشكالياته، أم أنها أزمة نظام تعليمي كامل؟
مصادر الأزمة عديدة
نعم هناك أزمة في تعليم الفلسفة، تناولتها أبحاث ودراسات ساهم بها أساتذة الفلسفة، الذين كانوا على وعي دائم بصعوبات يعانون منها في تعليمهم للمادة، وفي هذا السياق، أصدرت رابطة التعليم الثانوي عام 2001 كتابا يحمل عنوان"المناهج التعليمية في لبنان: مقترحات أولية للتعديل ومتطلبات التطبيق". تناول المعنيون في هذا الكتاب واقع المناهج التربوية في لبنان، وتوافقت وجهات النظر والمداخلات على وجود أزمة عامة تطال المنهاج، فهو يعاني من انكفاء مضامينه وعدم قدرتها على مجاراة معطيات العصر، وابتعاده عن محاكاة هموم المتعلمين ومجاراتهم في حياتهم المعيشة، وتوسّع الهوة بين محتويات الكتاب وموضوعاته والأهداف العامة والخاصة التي من المفترض أن تكون المادة المعرفية قد فصّلت على مقاسها، فجاءت هذه المادة مسطّحة أحيانا، ومختصرة أحيانا أخرى، ومفككة في عرضها، بالإضافة إلى أخطاء في المفاهيم وانعدام الترابط وافتقارها إلى التسلسل المنهجي.
هناك أزمة على مستوى آخر تطاول معلمي المادة، الذين تتفاوت قدراتهم بسبب افتقارهم للإعداد الكافي. ففترة الإعداد في كلية التربية لا تتعدى العام الدراسي الواحد، في حين كانت كلية التربية تخضع الأساتذة المتمرنين فيها لخمس سنوات من التدريب من خلال تدريس مقررات تربوية إلى جانب مادة الإختصاص، قبل أن ينالوا شهادة الكفاءة في التعليم، باعتبارها أساسا موحدا للدخول إلى وظيفة أستاذ تعليم ثانوي، بحيث لا يدخل إلى هذا التعليم إلا حملة هذه الشهادة وما فوق. لكن ظهرت بدعة التعاقد الوظيفي الذي يطيح بعامل الكفاءة وبالمعايير التربوية الرصينة، ما انعكس سلبا على تخفيض مستوى التعليم الثانوي الرسمي. والأزمة تطالعنا أيضا في المقرر والكتاب المدرسي، فمن هو المسؤول عن تهميش الكتاب الرسمي؟ ومن يراقب ظاهرة تسيّب "الكورات" البديلة وتفريخها من دون حسيب أو رقيب؟ وهل هي تخضع لمعايير تؤهلها أن تدرّس في مؤسسة تربوية؟ وبالتالي هل يتلقى المتعلمون مع هذا العدد الذي لا يحصى من الكتب البديلة جودة التعليم نفسها، والكفايات ذاتها المتوخاة من المادة؟ وهناك أزمة تقييم وأزمة تنقيط وووو...
عجز في تعيين مكامن الخلل
هذه الأزمة التي تفرّخ هنا وهناك في جوانب النظام التعليمي الرسمي، ليست لصيقة حصرا بمادة الفلسفة، بل تنسحب على المواد الأخرى في الإجتماع والتربية والتاريخ. ولكن من المسؤول عن هذا الخلل البنيوي في نظام التعليم الرسمي؟ ابتداء بالسياسات التربوية وليس انتهاء بتجهيز البناء المدرسي ومشروع الخريطة المدرسية والتعاقد الوظيفي وتصفية الحقوق المكتسبة للمعلم وتردي الموازنة التربوية وغيرها؟ والأكثر خطورة هو تصفية المدرسة الرسمية والإجهاز على دورها الوطني الجامع العابر للطوائف الدينية والطبقات الإجتماعية؟ إنطلاقا من أشكال الأزمة العامة هذه، فإن أي إجراء يدّعي أنه إصلاحي ولا يطاول عمق هذه المشكلات ويلامس قاع الواقع المتردي للتعليم في لبنان، إما يبقى شكليا صوريا منقوصا غير مستند إلى معايير علمية أكاديمية بيداغوجية واضحة، وإما يدلّ إلى عجز في تعيين مكامن الخلل ومواطن الضعف في البناء التكويني لهذا النظام التعليمي، بالتالي عدم إمكان وضع تصور بديل ضمن رؤية متكاملة شاملة تطاول أركان وجوانب التربية والتعليم في جميع مراحله، ابتداء من الروضة وانتهاء بالجامعة اللبنانية.
كأنها فائض معرفة
هناك وجه آخرلإقالة الفلسفة من مناهجنا ومن أذهاننا، ورذلها كأنها فائض معرفة لا يستجيب لانتظارات مجتمع تكتسحه التكنولوجيا. لماذا يأفل الدور التفكري للفلسفة ونحن بأمس الحاجة إليه في عالم باتت تغزوه العصبيات و تضيق فيه الآفاق والفضاءات التي يلتقي فيها المختلف والآخر، ويسيطر عليه التهميش والإقصاء والإلغاء والتكفير، وتنقصه مقولات مثل الإعتراف والحق في الإختلاف وقبول الآخر والإنفتاح عليه؟ عالم ضاق ذرعا بمساحات تتسع لتضم المختلفين والمتنوعين والمتعددين في رحابها، وانتفى فيه وجود الواحات التي يمكن أن يتبرعم في كنفها خطاب العقل والتعقل، بعيدا عن التحجر والتبجح بامتلاك حصرية الحق في القول، وإطلاقية صوابه وتكفير خطاب الغير.
الهدف من مادة
الفلسفة بناء متعلم يسأل ويتساءل ويقتحم ويتجرأ
ليست الفلسفة ترفا فكريا في مناخ يسوده التمييع المفاهيمي، ونضيع فيه وسط ازدواجية القيم، ونفجع يوميا بتفشي ظاهرة البغاء العقلي حيث انتهاك المفاهيم والإعتداء على حرمة ثبات القيم الأخلاقية، التي باتت مشرعة للتناقضات في فهمها وانعكاس ذلك في السلوكات البشرية.
في حين يسعى الغرب إلى توسيع نطاق نشر الإنشغال الفلسفي في الفضاء العمومي من خلال إنشاء مقاه لتداول المسائل الفلسفية، وتعمل فرنسا مثلا على تأصيل مادة الفلسفة في مناهجها من خلال البحث عن ابتكار طرق تعليمها للصغار، ننحو نحن في العالم العربي إلى طرد هذه المادة من مناهجنا، تمهيدا للإجهاز عليها في فكرنا وتراثنا وحاضرنا، ونتجاهل أن أي مشروع للمستقبل لا يمكن أن يؤسس له إلا إنطلاقا من تهيئة أرضية للتحرر العقلي والفكري أولا، بعيدا عن التدجين الأيديولوجي والتوظيف السياسي والتبعية لكل أشكال الزيف والإستلاب الثقافي والحضاري. إن مثل هذا التأسيس يبدأ بالمؤسسة التربوية التي يجب أن نفك أسرها من التصورات التقليدية والجامدة التي تجعلها غريبة عن السياقات الإجتماعية وتبعدها عن اللحظة المعاصرة وتعطل فعاليتها في إمكانية التغيير.
إنطلاقا من كوننا مشتغلين في المجال الفلسفي، والتزاما بدورنا التربوي والوطني، نحن مدعوون إلى لقاء تجمعنا الفلسفة حوله لنوسّع أفق نظرتنا لوظيفة المادة التي نعلمها، وألا نرضى بعد اليوم بأن تتناوب الفلسفة في مناهجنا التسويات، وأن تتجاذبها التوازنات والحسابات الضيقة، التي شوّهت مضمونها وطوّقتها ضمن ثنائيات اللغة والعناوين وجعلتها حبيسة توفيقيات ملفقة ومصطنعة، فسطّحت المعارف الفلسفية وأفرغت منها قدرتها على بناء متعلم يسأل ويتساءل ويقتحم ويتجرأ، لنبني منه مواطنا وفردا قادرا على الإنخراط في حوار عقلاني منفتح على قضايا عصره ومشكلات عالمه الواسع المنتشر، الذي بات من الخطورة أن نواجهه بعقل مقفل وفكر محدود.
* أستاذة فلسفة في التعليم الثانوي
يا أساتذة الفلسفة تحركوا
دعا التيار النقابي المستقل أساتذة الفلسفة إلى الاحتجاج على تقليص المادة إلى النصف في الامتحانات الرسمية، كي لا يصبح إجراءً مكرساً كتقليد في السنوات المقبلة. وسأل التيار: «ما هي المعاييرالأكاديمية والمنهجية والأصول الدستورية التي استند إليها عندما اتخذ قراراً بمسخ مادة أقرّتها المراسيم الجمهورية؟ كيف يمكن إلغاء مبحث يعالج إشكالية العلاقة بين العلم وانعكاساته التكنولوجية السلبية ودور الفلسفة النقدي في تصويب وظيفة العلم؟ وكيف تُزاح مواضيع سياسية تلامس واقع المتعلم، بحجة أنها تسبب تعقيدًا للطالب، بينما يبقى درس المنهج الرياضي الذي لا يمت بصلة إلى حياته؟"
ورأى التيار أن أزمة المنهاج في الفلسفة هي جزء من أزمة عامة تطال النظام التعليمي، ابتداءً بالمقرر الدراسي والكتاب المدرسي ومرورًا بإعداد المعلم وليس انتهاء بالبناء المدرسي، ومن وجوهه الخطيرة ضرب الحقوق المكتسبة للمعلمين والتمادي في تهميشهم.
لبنان ACGEN الأخبار تربية وتعليم