التعليم كعكة تتقاسمها الطوائف

في لبنان 4 ملايين نسمة، و45 مؤسسة تعليم عال. تبدو الأرقام مبشّرة، لكنها مضلّلة. فمنارة الشرق هي أيضاً منارة الطوائف، والدكاكين المزدهرة، في ظل تنازل الدولة عن دورها في قطاع التعليم

رنا حايك
تاريخياً، لزّمت الدولة في لبنان التعليم للقطاع الخاص، الذي يعني، في السياق اللبناني، الطوائف، وليس الشركات، مع احتفاظها بإدارة المدارس الرسمية والمجانية التي لم يلبث بعضها أن «طُوِّفَ» بدوره. أما الضيف الجديد على القطاع التعليمي، فهو «دكاكين» ذات هدف تجاري ترقص على السّلم بين الخاص والرسمي محاكية الأول ومستفيدة من ثغر الثاني. هذه هي خلاصة الدراسة التي قامت بها مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي (C.R.T.D) أخيراً، في إطار تنفيذها مشروع «المواطنة الفاعلة، النوع الاجتماعي والمستحقات الاجتماعية» الذي تعمل عليه منذ عام 2005. في الدراسة التي تصدر قريباً، رصد الباحثون فَهم المواطنين للحقوق الاجتماعية، بما فيها حق المواطن بالتعلم وبالرعاية الصحية.
«كانت نتائج البحث كارثية، فقد تأكّد لنا بالأرقام أن الدولة قد لزّمت قطاعي الصحة والتعليم للقطاع الخاص أي للطوائف»، يقول مدير المشاريع في المجموعة، عمر طرابلسي، لافتاً إلى أن القطاع الخاص في لبنان لا يعني الشركات الرأسمالية بل الطوائف. ورغم أن هذا التلزيم، كما اتضح من الدراسة، هو سيف ذو حدّين، بمعنى أن له سيئاته وحسناته، إلا أن نتيجته في المجمل كارثية، لأن القطاعين الحيويين هما، بحسب الأعراف، من مسؤولية الدولة في الأساس.
ففي قطاع التعليم، تبيّن أن 60% من المواطنين يلتحقون بالتعليم الخاص، فيما تبلغ حصة المؤسسات التعليمية الرسمية 40% منهم فقط.
أما الدليل الأكبر على تنازل الدولة عن مسؤوليتها في التعليم، فيبرز في دينامية الجامعات التابعة للمؤسسات الدينية. ففيما تتمتع الكنيسة باستقلالية مادية تشمل مؤسساتها التعليمية، تُعتَبر المجالس الإسلامية من سنية وشيعية تابعة للدولة، تدار بأموال تحسَب ضمن ميزانيتها. هكذا، يصبح من البديهي ألا يكون لدار الإفتاء أو للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى مدارس وجامعات من شأنها الإثقال على ميزانية الدولة. في الحالة المسلمة، يصبح القطاع بين يدي جمعيات ذات هوية طائفية. بهذا المعنى، يصبح لازدهار وتكاثر المدارس والجامعات «المسلمة» إذا صحّ التعبير، هدف أساسي هو خلق التوازن مع الإرساليات المسيحية. «في هذا الإطار، ورغم أن المؤسسات التعليمية التابعة للإرساليات تحتضن مسلمين أيضاً، إلا أن مفهوم المواطنة يظل غائباً، لأن التمييز، في المنح مثلاً، يظل قائماً لكنه تابو مسكوت عنه. بالإضافة إلى نوع الثقافة والتربية التي يستمدّها الطالب والتي تكون في معظم الوقت ذات صبغة طائفية، فإدارات هذه المدارس هي، في النهاية، هيئات دينية»، بحسب طرابلسي. بالإضافة إلى ذلك، تظلّ اعتبارات تلك المؤسسات مرتبطة بخدمة الطائفة، وبافتتاح الفروع في مناطقها، وفي جذب شبابها بدل أن يتوجهوا للالتحاق بجامعات تابعة لطوائف أخرى، وبتمرير الرسائل غير العلمانية للطلاب. كل هذه الاعتبارات تتناقض مع مفهوم المواطنية. ولكن ميزة أساسية تُحسَب للمؤسسات الخاصة الطائفية: مستواها التعليمي العالي. فهي مؤسسات يقوم مدخولها أساساً على التبرعات والهبات، وليس فقط على الأقساط. مثال بسيط على ذلك: تتمتّع الجامعة الأميركية في بيروت، التابعة تاريخياً للكنيسة الإنجيلية الأميركية (كان اسمها Syrian Prespitarian College) بميزانية 100 مليون دولار وتحتضن 7000 طالب. الميزانية ذاتها، في الجامعة الوطنية الرسمية، تُستَخدَم لمصلحة 100 ألف طالب!
بين هذه وتلك، برزت طبقة ثالثة من الجامعات، يمكن وصفها بـ«حديثة النعمة» إذا صحّ التعبير. طرابلسي يطلق عليها اسم «دكاكين». وإلا، لم تُفتَتَح الواحدة منها لضمّ 2000 أو 3000 طالب فقط؟
هذه الجامعات، التي «لن يفرّخ غيرها لحسن الحظ لأن الوزارة توقفت منذ سنة تقريباً عن منح تراخيص لها»، تكرّس شرعيتها من خلال إبرام التوأمات مع جامعات في الخارج «ما حدا سامع فيها». وهي تسدّ ثغر الجامعة اللبنانية من حيث تقديمها مختبرات واختصاصات كالكومبيوتر والتسويق والإدارة، إلخ... بينما تحاكي الجامعات الخاصة وتحاول التمثّل بها من حيث اللغات والأقساط.
خلاصة الدراسة: في لبنان 40 جامعة خاصة طوائفية. 13 منها تابعة للطائفة المسلمة، يلتحق فيها 33472 طالباً وطالبة، في مقابل 27 جامعة تابعة للطائفة المسيحية يلتحق بها 45592 طالباً. نسبة الجامعات التابعة للطائفة المسلمة تبلغ 32.5% من العدد الكلي للجامعات الطوائفية، فيما نسبة عدد الطلاب فيها تصل إلى 42.3%، ما يدلّ على قدرة استيعابية عالية لديها.
وبينما تمتلك الطائفة السنية العدد الأكبر من الجامعات ضمن الطوائف المسلمة، حيث يتبع لمؤسساتها 12 جامعة في مقابل جامعة واحدة للطائفة الشيعية، فيما لا تمتلك الطائفة الدرزية أي جامعة، تعتبر الطائفة المارونية من الطوائف التي تمتلك العدد الأكبر من الجامعات ضمن الطوائف المسيحية، إذ يبلغ عددها 14 جامعة، أي ما نسبته 58% من العدد الكلي للجامعات التابعة للطائفة المسيحية.
وفيما تظل الجامعات الطوائفية أرحم من الدكاكين التي افتتحت أخيراً، يبقى التعليم الرسمي والحكومي هو المطلب الأساس، لأنه الوحيد الذي يضمن المواطنية الحقة وحق التعلم للجميع.

«تطويف اللي زمط» من الطوائفية

تطال الطائفية بعض المدارس الرسمية الحكومية. فتلك المدارس، رغم خضوعها لسلطة الدولة، تصبح، بحسب الموقع الجغرافي لها، وسلطة الأمر الواقع فيه، جزراً معزولة، تابعة لصبغة المنطقة الطائفية، وتلتزم بجدول خاص بها من حيث أيام العطل مثلاً. أما المدارس المجانية التي تموّلها الدولة، فهي كعكة من 378 مدرسة تضم 140 ألف تلميذ تم اقتسامها: 100 منها تابعة للمسيحيين، 110 لهيئات شيعية، و90 للسنة.