تعاظمت في السنتين الماضيتين ظاهرة مثيرة للقلق، تمثلت بالدعوات الى الدفاع عن حقوق الطوائف على مستويات مختلفة. اخر تلك الظواهر ما تناولته الصحف المحلية من خبر تأسيس جمعية باسم "حركة الارض"، والتي تعنى وفقاً للجريدة الرسمية (تاريخ 20 -6-2013 ، عدد 27 ، بيان علم وخبر رقم 1080)، بالتصدي للبيوعات في اراضي المسيحيين. وقد نص البند الاول من غاية الجمعية على "المساهمة في التصدي للتغيير الديموغرافي في لبنان"، والبند الثاني، على "العمل على منع بيع اراضي المسيحيين عبر التوعية وعقد المؤتمرات"، اما البند الرابع فنص على "المساهمة في الدفاع عن الوجود المسيحي في اراضيهم"، علماً ان كل ما ورد حول "منع بيع أراضي المسيحيين" في نظام الجمعية، مخالف من حيث المبدأ للدستور والقانون، كما سنبين لاحقاً.
تبرر "حركة الارض" سبب وجودها، بتنامي حركة بيع اراضي المسيحيين لغير ابناء الطائفة، وذلك في مناطق مختلفة من لبنان، من عكار، الكورة، البترون، جبيل، كسروان، مروراً بالمتن وبعبدا وعاليه والشوف وجزين ووصولاً الى حاصبيا ومرجعيون والنبطية والزهراني والبقاع بكافة مناطقه. كما تجدر الاشارة هنا الى النزاعات الحادة، على ملكية الاراضي الحاصلة في منطقة القاع، خصوصاً ان التعديات تطال جميعها ابناء بلدة عرسال المتاخمة لها، وكذلك في بلدة لاسا وغيرها من مناطق العيش المشترك بين "رعايا الطوائف".
وقد وصفت تلك البيوعات، بحسب المعنيين بالموضوع، بـ"جريمة بيع أراضي المسيحيين" لابناء اللبنانيين من الطائفتين الشيعية والسنية، وكذلك الى الفلسطينيين والخليجيين، مع الملاحظة ان احدأً لم يعترض لبيع الاراضي للاجانب من غير المسلمين. وقد تناقلت اوساط الاطراف المعترضة دراسة تفيد ان «المساحات التي باعها المسيحيون الى المسلمين، لبنانيين وعربا، وصلت من تاريخ 1-1-2007 وحتى نهاية نيسان 2012 الى 33 مليون متر مربع، اضافة الى 108 ملايين متر مربع تم الاستيلاء عليها بطريقة او باخرى، اي ما مجموعه 141 ك2، و1.34% فقط من مساحة لبنان الاجمالية.
وما لا شك فيه، ان اثارة ذلك الموضوع من الزاوية الطائفية الضيقة، ليس صدفة او امراً منعزلاً خصوصاً انه يترافق مع طروحات ومشاريع سياسية طائفية اخرى مثل ما سمي بمشروع قانون الانتخاب "الارثوذوكسي"، الذي يعتمد على انتخاب كل مواطن/ة من مذهب معين لائحة تضم نواب من مذهبه/ها، كما يندرج في ذلك المنحى الانزلاقي، جملة من الانتقادات التي وجهت لوزارت الزراعة، الصحة والتربية، والمتعلقة بما سمي "بالتوظيفات العشوائية، والتي اثير بعضها خلال لقاء لجنة المتابعة والتنسيق النيابية المنبثقة من اللقاء الماروني.
والاكيد ان ما يحصل يؤشر الى حدة الاستقطاب السياسي والتسعيير الطائفي الذي تغذيه الاطراف السياسية بكافة اطيافها الرئيسية، مدعومة من المرجعيات الدينية، والى تناقض صارخ مع مضمون الدستور اللبناني الذي وان يشدد على عدم المساس بميثاق العيش المشترك، يكرس بشكل واضح الحقوق الفردية والمساواة بين اللبنانيين واللبنانيات. ويأتي في مقدمة الدستور ان "لبنان ملتزم بالاعلان العالمي لحقوق الانسان، فيما نصّت المادة 2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 20/12/1948 على أنّ "لكلّ إنسان التمتّع بكلّ الحقوق والحرّيات الواردة في هذا الإعلان من دون تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين"... وإذا كانت المادة 17 من هذا الإعلان تنصّ على أنّ "لكلّ شخص حق التملّك بمفرده أو الاشتراك مع غيره، لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسّفاً"، كذلك ونصت الفقرة (ط) على أن "ارض لبنان واحدة لكل اللبنانيين فلكل لبناني الحق في الاقامة على أي جزء والتمتع به في ظل سيادة القانون فلا فرز للشعب على اساس أي انتماء كان".
كذلك تنص المادة 11 من قانون الملكية العقارية اي القرار 3339 الصادر بتاريخ 12/11/1930 "ان الملكية العقارية هي حق استعمال عقار ما والتمتع والتصرف به ضمن حدود القانون والقرارات والانظمة". ومن المتفق عليه ان التصرف يشمل جميع اعمال التصرف مادياً بتغيير شكل الشيء، أو قانوناً بالتنازل عن الحقوق التي للمالك كبيع الشيء كله أو بعضه او هبته او رهنه او التأمين عليه.
وتجدر الاشارة هنا الى ان تبرير الاعتداء على حقوق المواطن-الفرد وعلى المساواة، في ما يتعلق بحق التملك وغيرها من الحقوق الاساسية بحجة الدفاع على حقوق الطوائف، لا يتوقف عند ذلك الحد بل يطال ايضاً الحقوق الاجتماعية والمدنية الاخرى، منها حق النساء البديهي بالجنسية، والذي يحجب عنهن بحجة الحفاظ على العيش المشترك وعدم الاخلال بالتوازن الديمغرافي الطائفي.
صحيح ان الازمة العامة الحادة التي تعصف بلبنان، وببلدان المنطقة، تبرر القلق على مستقبل المواطنين/ات من كل المكونات الاجتماعية والثقافية لتلك البلدان، وكيفية حماية حقوقهم/ن الاساسية، الا ان الحلول القصيرة النظر لن تؤتي ثمارها خصوصاً اذا استندت الى تسويات بين الاطراف السياسية تبنى على اسس فئوية ضيقة.
المطلوب البدء بعملية تغيير وطني شامل وجامع تلعب الاطراف السياسية غير الطائفية والمدنية الحريصة على قيام دولة المواطنة المساواة والعدالة الاجتماعية فيه دوراً رائداً، من خلال اولاً التصدي لدعوات ترسيخ الطائفية بحجة التوازن والمساواة بين الطوائف وعلى حساب حقوق الافراد، وثانياً بلورة مشروع وطني مدني بديل.