مناهج تعليمية تنسجم مع المفاهيم الرائجة

Wednesday, 6 November 2013 - 12:00am
جامعات على مقاس «السائد»
«الحكم الرشيد»، «حل النزاعات»، «حوار الحضارات»، «المسؤولية الاجتماعية للشركات»، «الريادة الاجتماعية»، وغيرها من المصطلحات الرائجة، لم تعد تختصر على برامج المنظمات غير الحكومية والجهات الممولة. وقد تحوّلت إلى عناوين اختصاصات أو مواد تدريس لحظتها أخيراً بعض الجامعات اللبنانية نتيجة نمو «سوق الجمعيات»، والتوجهات الاقتصادية الراهنة.
انبثقت تلك المفاهيم من سياسات إعادة الهيكلة الاقتصادية، وما رافقها من تفكّك الدولة الرعائية. فشكلت «عدة عمل» المنظمات الدولية وغير الحكومية، ومؤسسات القطاع الخاص، لتعويض التداعيات الاجتماعية لتلك السياسات.
يُغدق المانحون الأموال على مؤسسات تروّج لمفاهيمهم، فتتكاثر الجمعيات لتقارب نحو 1500 جمعية، وفق دليل منظمات المجتمع المدني للعام 2010. توفر تلك الجمعيات فرص عمل هائلة لأصحاب الكفاءات المتوسطة والعالية وتنتج وظائف جديدة غير معترف بها في القطاعين العام والخاص، مثل منشّط وميسّر ومدرّب ومسؤول مناصرة. تستجيب بعض الجامعات لطلب السوق، وتقدم للجمعيات ولمؤسسات القطاع الخاص اختصاصات «على مقاساتها».

احتراف أكبر ونضال أقل
أطلقت «جامعة الحكمة» أخيراً ماجستير بعنوان «إدارة الجمعيات والمنظمات غير الحكومية»، بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية وبتمويل من «المديرية العامة للتعاون الإيطالي»، وأدخلت «جامعة روح القدس - الكسليك» إلى مناهجها مادة تعليمية بعنوان «إشراك الطلاب وبناء قدراتهم في ما يتعلق بعمل الأمم المتحدة»، ووفرت «المدرسة اللبنانية للتدريب الاجتماعي» في «جامعة القديس يوسف» منذ سنوات ماجستير بعنوان «التنشيط الاجتماعي». تعكس تلك الأمثلة درجة استجابة العالم الأكاديمي لتوجهات السوق والدور المتنامي للجمعيات في موازاة تراجع الخدمات العامة.
وبالرغم من أن «اللبنانية للتدريب الاجتماعي» توفّر إجازة في الخدمة الاجتماعية منذ العام 1948، كانت مجالات عملها حينها تتمركز في القطاع العام، وتحديداً في وزارة الشؤون الاجتماعية، وفق مديرة المدرسة ماريز طنوس جمعة. ومع تنامي ظاهرة الجمعيات، أضافت «اللبنانية للتدريب الاجتماعي» إجازتي التنشيط الاجتماعي والتعليم المتخصص، وهما اختصاصان تنتجهما الجمعيات التي تعمل على قضايا وفئات محددة (مثل المدمنين والسجناء والأشخاص المعوقين.. الخ). يعبّر هذا المثل كثيرا عن التغييرات البنيوية الحاصلة: انسحاب الدولة من دورها الرعائي واستبداله بخدمات وأنشطة الجمعيات.
لكن الأمر يتعدى منطق العرض والطلب وعلاقة الجامعة بسوق العمل. يُثير تمويل صناديق الدول المانحة البرامج التعليمية علامات استفهام حول دوافع المموّل واستقلالية الوسط الأكاديمي. وتعزّز كيفية الترويج لتلك الاختصاصات/ المفاهيم السائدة التساؤلات تلك.
على سبيل المثال، يُعلن منسّق برامج الماجستير في «الحكمة» الدكتور سليم الصايغ خلال حفل الإطلاق عن «ضرورة تكامل العمل بين المنظمات غير الحكومية المؤتمنة على دور المجتمع المدني، بما يسمح التمكّن من التحضير والإدارة الاستراتيجية للمشاريع التنموية، إدارة الموارد البشرية والمتطوعين، الريادة الاجتماعية، القيادة والتواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى إدارة برامج الأزمات والحالات الطارئة والإغاثة، والمفاوضات وحل النزاعات».
ويعتبر مدير المعهد العالي للعلوم السياسية والإدارية في «جامعة روح القدس» جورج يحشوشي أن المادة «صمّمت بغية مساعدة الطلاب على تحديد أسباب المشاكل الأساسية التي تواجه البشرية وتعزيز فهمهم جهود الأمم المتحدة ونشاطاتها في هذا الإطار».
يحصر الصايغ مصطلح «المجتمع المدني» بالمنظمات غير الحكومية، متجاهلاً بذلك الأحزاب والنقابات، لا بل صنّفها على اعتبارها «مؤتمنة» على دور المجتمع المدني. بينما يجزم يحشوشي بدور منظمات الأمم المتحدة على «فهم وإيجاد الحلول لمشاكل البشرية». تعكس تلك التصريحات توجهاً أحادياً في تقديم تلك المواد، ويُهمّش بذلك المساهمات البحثية النقدية تجاه ظاهرة الجمعيات.
ليست الإشكالية في إدخال تلك المواد على المناهج التعليمية، ولكن بكيفية تدريسها. فلا يمكن للأوساط الأكاديمية تجاهل حاجات السوق وتوجهاته، وذلك لا يعني أيضاً التماهي معه. تعتبر مديرة معهد العلوم السياسية في «جامعة القديس يوسف» فاديا كيوان أن «الأوساط الجامعية تنساق للتوجهات النيوليبرالية من خلال مواد التدريس. وسوق العمل تفرض على الجامعات ذلك. ولكن على الجامعات أن تحافظ على مناعتها وتقدم تلك المواد علميا ونقديّا».
لا يصنع الاختصاص واقعاً، لكنه يكرّس ظاهرة مأسسة واحتراف عمل الجمعيات. «العمل الاجتماعي ليس تطوعياً فحسب، بل مهنة وتحتاج إلى الاحتراف. نحن نخرّج محترفين يعملون برواتب عالية. وهناك طلب كبير على اختصاصاتنا»، تقول جمعة، مؤكدةً أن جميع طلابها يعملون. بينما تلفت كيوان إلى أن «احتراف عمل الجمعيات أمر إيجابي، لكنه يساهم أيضاً في إفراغ النشاط التطوّعي من مضمونه السياسي والنضالي».

«الاقتصاد الذي نحب»
لا تختصر استجابة الأوساط الأكاديمية لتوجهات السوق باختصاصات الجمعيات ومفاهيمها، بل أدخلت أيضاً مفاهيم اقتصادية مستوحاة من مناخ العولمة الاقتصادية. على سبيل المثال، أدخلت «اللبنانية للتدريب الاجتماعي» أخيراً مواد تعليمية عن «المسؤولية الاجتماعية للشركات»، واستحدثت دبلومَ في «الريادة الاجتماعية» (Entrepreneuriat Social)، يُسوّق له على موقع الجامعة على أنه «أداة لتغيير العالم».
يُقصد بـ«الشركات الاجتماعية» تلك التي تبغي الربح ولكنّ لها أهدافاً اجتماعية (مثل شركة تدوير مواد بلاستيكية صديقة للبيئة). مفهومٌ انبثق عن «المسؤولية الاجتماعية للشركات» الذي يعني أن للشركات مسؤولية اجتماعية وأخلاقية تجاه موظفيها والمجتمعات المحلية والمستهلكين، بغض النظر عن القوانين والأنظمة المرعية. ويعطي المفهوم الشركات دوراً محورياً يدور في فلكه المجتمع، باعتبار أن للشركات القدرة الذاتية على مراعاة حاجات عمالها ومستهلكيها. وفي أغلب الأحيان، يتجلى هذا المفهوم عبر استثمار الشركات في مشاريع ذات أهداف اجتماعية (كمصرف يموّل جمعية تكافح سرطان الأطفال).
تسعى تلك المفاهيم إلى «المصاهرة» بين الاجتماعي والاقتصادي، تماماً كمنطق «الوجه الاجتماعي للعولمة». تشرح مديرة المدرسة أهمية الاختصاص المستحدث: «نستطيع القيام بأعمال تجارية في خدمة المجتمع، من خلال التوفيق بين الربح وتنمية المجتمع». بالنسبة إليها، تلك المصاهرة تمثّل «الاقتصاد الذي نحب». علماً أن هناك مساهمات نقدية تعتبر أن استثمار الشركات في «الاجتماعي» يهدف إلى تبييض الصورة (بكلفة أقل من الإعلانات)، التهرب من الضرائب، وتفادي القوانين الناظمة لعمل الشركات.. أكثر منه تلبية الحاجات الاجتماعية.
تجنّبت جمعة الإجابة عما إذا كان المنهج يتضمّن نقداً لتلك المفاهيم: «نحن ندرّس المفاهيم وحدودها، ولكنني أفضّل عدم الدخول في السلبيات. تهدف تلك المواد إلى إبراز أهمية المفهوم المعتمد في معظم البلدان المتقدمة، وعلى رأسها أميركا الشمالية». بينما يؤكد الخبير الاقتصادي جورج قرم أنّ «تلك المفاهيم انبثقت من النموذج الاقتصادي النيوليبرالي، وهدفها تجميل واقع قائم على تعظيم الأرباح».
وتبدو التوجهات والمفاهيم الاقتصادية البديلة شبه غائبة من برامج معظم الجامعات في لبنان، وإن وجدت تبقى هامشية. يعتبر الخبير الاقتصادي جاد شعبان أن «برنامج الاقتصاد في الجامعة الأميركية يفتقد التوازن، ويستند استنادا كبيرا الى التوجهات النيوليبرالية. وتقتصر المساهمات النقدية على جهود بعض الأساتذة، لكنها لا تعكس البرنامج التعليمي نفسه». ويؤكد الأستاذ الجامعي في الاقتصاد الزراعي كنج حمادة، بناءً على تجربته في «الجامعة اللبنانية» و«الجامعة الأميركية» أنّ «البرامج التعليمية تستند في معظمها إلى التيار الاقتصادي السائد، ولكن يبقى هامش الاختلاف أوسع في صفوف الماجستير التي تسمح للأساتذة بإدخال مواد نقدية على برامجهم».
وبالرغم من ازدهار المفاهيم الاقتصادية البديلة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية في بعض الأوساط الأكاديمية الغربية، وحتى في عدد من تقارير الأمم المتحدة (مثل «منظمة العمل الدولية» و«الأونكتاد»)، تُطمس مواد تعليمية مثل آليات توزيع الدخل، الاقتصاد غير النظامي والاقتصاد التشاركي ودور التعاونيات، الخ. لا يعني ذلك أن المساهمات النقدية لا تستدعي نقاشاً، لكنها تستحق أن تأخذ حيزاً في البرامج التعليمية.

لبنان ACGEN السغير تربية وتعليم