Sunday, 6 April 2014 - 12:00am
اذا أردنا توصيف وضع القطاع الصحي في لبنان نستطيع بكل شجاعة توصيفه بما يلي:
فوضى عارمة سعت وما زالت الجهات المعنية تسعى منذ سنوات وعلى رأسها وزارة الصحة العامة- الى تنظيمها للوصول الى هيكلية تنظيمية جديدة ونظام جديد يرقى بلبنان الى مصاف الدول المتطورة من دون أن تنجح في ذلك حتى الآن.
أنا لا أنكر ان لهذا النظام الصحي حسنات ولو قليلة نسبياً وعلى رأسها المواكبة التكنولوجية للمعدات الطبية المتطورة التي كانت، ولا تزال، تطال المحظوظين فقط، وغياب لوائح الانتظار في الاستشفاء ومستوى طبي راقٍ لبعض المستشفيات الخاصة الجامعية، الا أننا اذا أردنا مقارنة هذه الحسنات بمشاكل وسيئات هذا القطاع لوجدنا أن وضعه أصبح مأسوياً ويتطلب معالجة جذرية وخطة طوارئ انقاذية. وسنورد في ما يلي بعض المشاكل الأساسية في هذا القطاع:
أولا: غياب الدولة عن دورها الفاعل في تنظيم القطاع الصحي الذي يحكمه مبدأ «المبادرة الفردية والاقتصاد الحر»، ما أدخله في فوضى المضاربة التجارية وأدى الى هدر كبير على حساب جيب المواطن حقوقه في طبابة كريمة عادلة وعلى حساب خزينة الدولة التي أصبحت رهينة لأمراء هذا الاقتصاد الحرّ من مستشفيات ومستوردي أدوية وأدوات طبية وغيرهم.
ثانيا: إنفاق مرتفع من الدخل القومي على الصحة يصل الى حدود 9 - 10% مقابل مؤشرات صحية وخدمات طبية متواضعة نسبياً وتغطية لنصف الشعب اللبناني فقط مقارنة مع دول الجوار التي تنفق أقل من ذلك وتتمتع بمؤشرات صحية أفضل مع العلم أن الدول الاوروبية والاسكندنافية لديها الإنفاق نفسه تقريبا وأحيانا أقل وتتمتع بمؤشرات صحية أفضل وخدمات طبية أرقى وتغطي خدماتها كل شرائح المجتمع لديها.
ثالثا: فاتورة دوائية مرتفعة مقارنة بالدول الاوروبية (المرجع) والدول العربية (المرجع) وتشكل هذه الفاتورة 30-35% من الإنفاق على الصحة و36% من دخل الاسر الاكثر فقراً. وتخفي أرباحاً هائلة لمستوردي الادوية الذين يقدّمون الاغراءات المادية والمعنوية للاطباء والمستشفيات والصيدليات لتسويق أدويتهم في ظل وجود قانون حاضر غائب مجحف بحق الدولة لتنظيم استيراد الادوية. هذا من دون احتساب الادوية المهرّبة التي تشكل 25% من سوق الادوية في لبنان، مع العلم ان متوسط حجم هذه الادوية هو 5% عالمياً. أضف الى ذلك غياب خطة واضحة في وزارة الصحة لتسويق أدوية الجنريك الاقل كلفة مقارنة بالادوية الاصلية غالية الثمن التي يرفع استعمالها الفاتورة الدوائية في لبنان والتي بلغت أخيراً 250 دولاراً للشخص الواحد، وهي أعلى نسبة إقليمياً. ولن ننسى المشاكل في تغطية الوزارة أدوية الأمراض المزمنة والسرطانية الباهظة الثمن بسبب نقص الموازنة ونشوء شبكات الاتجار بهذه الأدوية بفعل انعدام الرّقابة الفعّالة. كما لن ننسى إقفال المختبر المركزي في العام 2007 بعد أن كان تأسيسه إنجازاً إقليمياً في العام 1956 ما صعّب عملية مراقبة الأدوية في لبنان.
رابعاً: فاتورة مواد طبية مرتفعة جداً تخفي أرباحاً هائلة لمستوردي هذه المواد غالباً ما يدفعها المواطن من جيبه الخاص وتدفعها الجهات الوطنية الضامنة، هذه الأرباح التي يتقاسمها المستوردون مع الأطباء والمستشفيات وبعض الموظفين فيها الذين تحولوا الى شبكات مافيوية للاتجار بهذه المواد في ظل غياب آلية واضحة في وزارة الصحة لمراقبة أرباحهم الخيالية .
خامسا: انعدام الرقابة الصحية والمحاسبة في المستشفيات بحيث تحوّل الأطباء المراقبون الى موظفين في المستشفيات التي يراقبونها هذا اذا وجد أطباء مراقبين يعملون أكثر من ساعة يومياً من دون التدقيق بأعمال الاطباء وبفواتير الاستشفاء المنتفخة بأعمال طبية وأدوية وهمية ومرضى وهميين أحياناً ومرضى الويك-آند والاستشفاء غير المبرر... وما الى ذلك من خزعبلات أصبحت من البديهيات اليومية في مستشفياتنا
سادسا: غياب خارطة صحية واضحة منذ سنوات طويلة:
- ففي لبنان لدينا أعلى نسبة أطباء في العالم (طبيب واحد لكل 300 مواطن - 300/1 مقابل 1100/1 عالميا ) ما يقلّص فرص العمل لدى هؤلاء وبالتالي يجبرهم على الاعتماد على أساليب غير شرعية لزيادة مداخيلهم ويخلق تفاوتاً كبيراً فيها بحيث تبلغ مداخيل 20% من الاطباء ما قيمته 80% من مداخيلهم الاجمالية من دون وجود أي خطة واضحة لدى السلطات المعنية لتوجيه الطلاب الجامعيين في اتجاه اختصاصات جديدة مطلوبة في السوق اللبناني.
- في لبنان أعلى نسبة صيادلة في العالم (صيدلي واحد لكل 670 مواطن -670/1 مقابل 2950/1 عالمياً) من دون اتخاذ اي تدابير للحدّ من زيادة أعدادهم.
- في لبنان أعلى نسبة أسرّة في العالم نسبة لعدد السكان أضف الى ذلك سوء توزيع للمستشفيات على المحافظات فتجد أدنى نسبة للاسرّة والمستشفيات في المحافظات الأكثر اكتظاظاً بالسكان والأكثر فقراً كالبقاع والجنوب والشمال وتفاوتاً كبيراً في نوعية الخدمات الطبية التي تعتبر جيدة في المستشفيات المركزية الجامعية في بيروت والمتن وجبل لبنان ومتواضعة في المناطق الفقيرة المذكورة أعلاه.
- في لبنان أعلى نسبة مختبرات في العالم وأسعار فحوصاتها المخبرية مرتفعة جداً مقارنة بدول المحيط ونسبة للحد الأدنى للاجور، هذه الاسعار تخفي أرباحاً خيالية يتقاسمها الطبيب والمختبر في بعض الأحيان بهدف المضاربة التجارية.
- في لبنان أعلى نسبة استيراد للتقنيات الطبية المتطورة في العالم عملاً بمبدأ «الآلة تخلق زبائنها» من دون دراسة كلفة استقدام الآلة والجدوى الاقتصادية والطبية المتوخاة من تشغيلها (cout/efficacite) في ظل غياب تام لدور وزارة الصحة ومن دون مراعاة التوزيع الجغرافي لهذه التقنيات ما أدى
الى استعمال مفرط لها (abus dutilisation) وإنفاق أكبر يصنّف قي خانة الهدر على الصحة.
- في لبنان أعلى نسبة مستوصفات في العالم مع فوضى مخيفة في ادارة هذا القطاع الى درجة أنه يتعذّر على الباحث معرفة عددها وتوزيعها إذ تحول قسم منها الى مراكز استقطاب سياسي وطائفي ومذهبي مع انعدام الرقابة على توزيعها الجغرافي وعلى نوعية الخدمات الصحية التي تقدمها للمواطنين فتحول عدد منها الى مراكز لتجارة الأدوية.
- في لبنان خلل كبير في الإنفاق على القطاعين العام والخاص لصالح هذا الأخير. فتجد أن حوالى 70% من الإنفاق على الاستشفاء يذهب للقطاع الخاص مقابل 30% للقطاع العام بحيث أصبحت وزارة الصحة المموّل الرئيسي للقطاع الخاص في لبنان.
- في لبنان 149 مستشفى خاص تقدم معظمها خدمات طبية جيدة ويحصل بعضها على جوائز عالمية من حيث جودة الخدمات مقابل 29 مستشفى حكومي أكثر من نصفهم لا يعمل والنصف الآخر يتآكله الفساد المالي والإداري والمحسوبيات السياسية والتوظيفات العشوائية ومجالس إدارة منتهية الصلاحية منذ سنوات مع خدمات طبية متواضعة جداً ونقص في التجهيزات الأساسية كحاضنات الأطفال والتقنيات الحديثة الأخرى.
إن هذه الأسباب مجتمعة على رأسها غياب الرقابة والمحاسبة مع أسباب أخرى، وعدم وجود سياسة صحية واضحة بعيدة عن المحاصصات السياسية والمذهبية أدت الى تضخّم الفاتورة الاستشفائية بداعي الهدر الذي أوردنا جزءاً من أسبابه والذي يقارب 40% من الإنفاق على الصحة والى هوّة كبيرة بين فواتير المستشفيات وقدرة الدولة على التلبية، ما أدى بدوره الى ضخامة المتأخرات المستحقة على القطاع العام لصالح الضمان الاجتماعي والمستشفيات الخاصة والأطباء والى ظهور مصطلحات ومرادفات صحية جديدة «كعقود التسوية والمصالحة والتلزيم بمبلغ مقطوع» ما أفقد الثقة المتبادلة بين وزارة الصحة والجهات الضامنة الأخرى فدفع المواطن ثمن ذلك من حقوقه في طبابة شريفة عادلة. هذه الطبابة التي أصبحت حكراً على الفئات الغنية وعلى أصحاب الوساطات، وأصبح الفقير يموت متسكّعاً على أبواب المستشفيات.
إن إصلاح هذا القطاع عبر ايجاد حلول جذرية لهذه المشاكل بهدف تقليص هذا الهدر الفاضح ليس مستحيلاً بل سهل المنال عندما تتواجد النيّات وعندما يرفع الغطاء السياسي عن المستفيدين وعندما يعدل القضاء وتتفعّل الرقابة وتبدأ المحاسبة ويوضع الشخص المناسب في المكان المناسب وتسنّ القوانين التي ترعى حقوق المواطن والمواطن فقط -عندها ستتوفّر الأموال لتحسين الخدمات الطبية لتطال كل شرائح المجتمع.... ومن دون ذلك ستبقى «البطاقة الصحية وضمان الشيخوخة» حلم يراود اللبنانيين مع كل حكومة جديدة وبعد كل انتخابات.
طبيب
ACGEN
المستقبل
صحة