«اللبنانية»: من وطنية التعليم إلى التفريع

Tuesday, 14 April 2015 - 12:00am
مع بداية الحرب في العام 1976، تفرّعت «الجامعة اللبنانية»، بموجب قرار قضى بإنشاء فروع ثانية بصورة موقتة، ولأسباب أمنية، ثم أتى المرسوم الاشتراعي الرقم 122/77 ليجعل الفروع المستحدثة فروعاً قائمة. وأدّى التفريع في مختلف المناطق إلى ظهور حاجة لتأمين جهاز إداري يتولى تسيير شؤون هذه الفروع، الأمر الذي وجد فيه أصحاب الزعامات والنفوذ باباً آخر للنفاذ فيه إلى قلب الجامعة، عبر الضغط لتوظيف المحاسيب والأزلام، حتى ولو لم تتوافر فيهم الشروط الوظيفية المطلوبة.
وساهم توظيف هؤلاء، تحت ضغط الحاجة، إلى تكريس هذا المنطق حتى غدت بعض الفروع متخمة بالموظفين، وامتدت الـ «كوتا» لتصل إلى توظيف الأساتذة ومن ثم المديرين والعمداء، ولا يختلف الوضع الحالي للجامعة عن السنوات التي تلت حرب السنتين، فهي كرّست حضور الزعيم أو ما بات يعرف بسلطة القوى السياسية والأحزاب، وتحوّلت هذه الظاهرة الشاذة، والتي بدأت فعلياً مطلع ثمانينيات القرن الماضي إلى قاعدة في التوظيف.
وكانت الجامعة، قبل أحداث السنتين، قد تبوّأت موقع الصدارة على الصعيد التربوي، لكونها محور التحركات المطلبية الهادفة إلى تعزيز وتوسيع التعليم الرسمي، وتحقيق ديموقراطية التعليم ووطنيته. وخلال الأحداث وبعدها كان للجامعة موقع الصدارة، على الصعيد نفسه، باعتبار أنها الهدف الأول والأبرز للمحاولات الهادفة إلى تقويض التعليم الرسمي، مع ما يمثله من حد أدنى لوحدة التوجه التعليمي كشرط من شروط وحدة البلد.
وعانت الجامعة في غضون السنوات التي تلت الحرب الأهلية (1975)، من نزف في كبار أساتذتها الذين كانوا يُحالون تباعاً على التقاعد، وتشغر أماكنهم، ويتم ملؤها بالمتعاقدين الذين تعاني علاقتهم بالمؤسسة من عطب جوهري، نتيجة أوضاعهم المهنية والمعيشية، حيث تتوزع طاقتهم بين التعليم في أكثر من مؤسسة وفي مراحل متغايرة أيضاً مما يفقدهم التركيز والانكباب على الأبحاث وإسناد طلابهم. وهو أحد الأسباب - مع سواه - التي أدت الى تراجع موقع الجامعة الأكاديمي والمجتمعي وتضخم دور الجامعات الخاصة، على حساب الجامعة الرسمية الوحيدة، بفروعها التي تتجاوز الخمسين في مختلف المناطق.
يلقي أهل الجامعة اللائمة على التدخلات السياسية في الجامعة، وأن معظم الذين كانوا في مواقع المسؤولية في الأحزاب هم من أبناء الجامعة، وأن ممارساتهم هي التي أدت إلى تفريع الجامعة. ويرى آخرون أن ما عانت منه الجامعة من تقسيم سببه التفريع، يقابله رأي آخر أن التفريع كان سبباً في تنمية مناطق بأكملها، وشكل نهضة للجامعة.
«السفير» تعيد عبر شهادات من أبناء الجامعة، التذكير بالعطب الذي تركته الحرب الأهلية، على الجامعة الوطنية، والتداعيات التي ما زالت ترافقها.

يرى الرئيس الأسبق لـ «رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة» شربل كفوري أن الممارسات السياسية والطائفية والمذهبية، هي التي تشكل خطراً على الجامعة وليست الفروع، التي تكرست بالقوانين، بعدما كانت أمراً واقعاً فُرض ميليشياوياً.
ويعتبر الرئيس الأسبق لـ «رابطة الأساتذة المتفرغين» حميد الحكم أن التأثير الأساس للحرب هو عند فتح الفروع الثانية، بحيث لم تكن خاضعة إدارياً وأكاديمياً للجامعة، بل لسلطة قوى الأمر الواقع والقوى السياسية. ويقول: «تخطّينا السلبيات من خلال تطبيق القانون، بعدما كان يتم اللجوء مثلاً في الشمال، بين عامي 1978 و1985 إلى حملة شهادة الماستر، وبقيت آثار الحرب مستمرة نحو عشر سنوات، وعندما وضعت الشروط الأكاديمية المطلوبة انتظمت الأمور، إلا أن التعيينات والتعاقد بقيا خاضعين للسلطة السياسية، خصوصاً أن المادة التاسعة من المرسوم 122/77 نص على تعيين رئيس الجامعة والعمداء من الشخصيات المشهود لها بالكفاءة، حتى جاء القانون 66/2009 ليلغي المرسوم 122، مع ذلك بقيت التدخلات».
يشير رئيس «رابطة قدامى أساتذة الجامعة اللبنانية» د. عصام الجوهري إلى أن الحرب جاءت لإسكات الأصوات الديموقراطية، ليحل محلها صوت المدفع، وقد شرذمت الحركة الطالبية، وضربت وحدتها والتحق كثيرون من الطلاب بالميليشيات المتحاربة، لتتحول الجبهة الديموقراطية التي جمعتهم إلى جهات عسكرية متقابلة.
يستذكر كفوري يوم كان طالباً في كلية العلوم، واندلاع حرب السنتين، وتقسيم البلد والخطف على الهوية، ثم تحولها إلى صراعات مذهبية، في الوقت الذي راهنت فيه «الكتلة الوطنية» على وحدة البلد في ظل حديث عن وطن قومي مسيحي. ويقول: «كنا نعتبر أن الأحداث لن تدوم، وعدنا إلى الجامعة في أيار العام 1975، غير أن الأمور تطورت أكثر، ما دفع الجامعة إلى وقف الدراسة لعامين، وهاجر عدد كبير من الطلاب، إما هرباً من الحرب، أو لمتابعة التعليم، حتى أن بعض الطلاب سافروا إلى فرنسا من دون شهادات». يضيف: «في العام 1977 صدرت مراسيم تفريع الفروع، في ظل هيمنة قوى الأمر الواقع في المنطقتين الشرقية والغربية، واستمررنا في رهاننا على العيش المشترك، والذين كانوا توحيديين في ذلك الوقت أصبحوا تقسيميين، بينما التقسيميون عرفوا أن الأمور لا تصح إلا بالوحدة».

إنماء
يتوافق الحكم وكفوري على أن الفروع في البداية بدأت بأمر واقع معين، وبهيمنة ميليشياوية، وانتهت إلى حاجة إنمائية، وانتشرت على جميع الأراضي اللبنانية. وينتقد كفوري بدعة تشعيب الكليات في المحافظات، «بتنا نرى شعباً وفرعاً لكلية واحدة في المحافظة نفسها، توزّع كجوائز ترضية. في السابق كانت القضية أمنية، والطالب يريد التعلّم، وكان التفريع إنمائياً، إنما تشعيب الكليات والممارسات الأمنية والطائفية والمذهبية، يجعلني أعطي حسن سلوك للتفريع وقت الحرب».
ويعتبر الجوهري أن التفريع أفقد الأساتذة والطلاب وحدتهم من ناحية، ولكنه لبى حاجة موضوعية آنذاك بحكم ما أصاب البلد من تشرذم وقيام خطوط تماس بين المناطق.
ينفي كفوري مقولة أن التفريع هو الذي خرب الجامعة لأنها كانت طائفية. ويؤكد أن التشعيب جاء على أسس مذهبية وهذا أسوأ، وتحول إلى أمكنة للتوظيف الطائفي.
ويرفض كل من الحكم وكفوري القول إن «الجامعة اللبنانية وجدت لدعم الجامعات الخاصة»، ويلفتا إلى أن الجامعات الخاصة وجدت قبل الجامعة اللبنانية، والمراسيم التي صدرت أيام وزير التربية الأسبق ميشال إده وتحديداً القانون 61 شرّع وجود الجامعات الخاصة، في وقت بدأت «الجامعة اللبنانية» تحصّن نفسها، وتم إنشاء الكليات التطبيقية مثل الهندسة، والطب وطب الأسنان وغيرها.
ويرى الجوهري أن الطبقة السياسية بعدما فرضت عقيدتها التقسيمية على مكوّنات الشعب، تأثرت الحركة الطالبية سلباً، ولم تستطع بعد عشرات المحاولات من إعادة توحدها ولمّ شملها، ما أفقد الجامعة أحد أهم تحصيناتها ودفاعاتها، مما سهل استباحتها سياسياً وطائفياً.
ويشير إلى أن ذلك ينسحب على أساتذة الجامعة، «الذين فقدوا وحدتهم مع تقسيم الجامعة إلى فروع في المناطق والعاصمة، وأضحى تحركهم فرعياً، وانقسموا أيضاً حول مسألة التفريع مع أو ضد».
يبدي كفوري أسفه لجهة عدم الالتزام بالجامعة «الذي حافظنا عليه وعشناها، حتى في أيام الحرب، بدأنا نشعر بفقدانه، وكلما أتى جيل نشعر أن القرف يُصيبه، ولم نعد نعيش التواصل الذي كنا نعيشه أيام الحرب، لتغلل المذهبية في النفوس، جراء ممارسة بعض أهل الجامعة والسياسيين».
يؤكد الحكم أن ما بدأ خلال الحرب لم يكن من السهل التخلص منه، لكونه فتح المجال أمام قوى الأمر الواقع بالتدخل، ولم يعد بالإمكان سحب هذا التدخل. ويرى أن التفريع أمر إيجابي ولم يكن سلبياً، «بدلاً من التحاق الطلاب بالجامعات الخاصة، كانت الفروع موجودة لاستقبالهم». ويعتبر أن الفروع باتت حاجة إنمائية، خصوصاً لأبناء الأرياف، وهي ما زالت أفضل من المطالبة بوحدات جامعية مستقلة.
ويشير كفوري إلى أن «الحرب أدّت إلى تقسيم المباني، وبقي الجسم التعليمي موحّداً، أما نفسية ما بعد الحرب فهي أسوأ من نفسية فترة الحرب». و «صحيح فرّعت الجامعة لكنّها كانت محصّنة، وحدة الأبنية لا تعمل وحدة الجامعة، بل هي روحية والالتزام الوطني كما عملنا في كلية الهندسة بعيداً من المحاصصة السياسية والمذهبية. نريد جامعة ما بعد الحرب، خصوصاً في الأيام التي نعيشها حيث الجميع يلتهي بتقاسم الجبنة والنفوذ والخلاف على تعيين مدير هنا وأمين سر هناك. سابقاً كان هناك خجل».
يتوافق الجوهري مع الرأي القائل إن «من أهداف حرب 1975 هو الإطاحة بدور الجامعة اللبنانية». ويعتبر أن الجامعة شكّلت آنذاك أحد محاور الحراك الاجتماعي والوطني، طلاباً وأساتذة، خصوصاً أن هذين القطبين كانا موحّدين، ما جعل لتحركهما زخماً فعالاً ومؤثراً وتحديداً على الحركة الطالبية.

دور الأساتذة
يتذكّر الحكم أنه «عندما أعدنا العمل بالرابطة في مطلع تسعينيات القرن الماضي، كان المطلب الأول إعادة العمل بقانون الجامعة، لأن الفروع كانت تخضع للأحزاب، سواء في تعيين العمداء أو المديرين، في ظل تعاقد مع أساتذة تحت ضغط الأحزاب والميليشيات».
ويؤكد كفوري أن الرابطة عندما تم إحياؤها في العام 1992، عملت على تحصين الجامعة، وتحسين وضع الأستاذ الجامعي مادياً وأكاديمياً. وللأسف أصبح على جدول أعمال الرابطة الرواتب التي تتأخر والخلافات على التعيينات، والتعاميم التي تتساقط على الأساتذة، والإنذارات التي توجّه إليهم».
ويلفت الجوهري إلى أن أساتذة الجامعة لم يوقفوا تحركهم من أجل الحفاظ على حقوقهم، وإيقاف الحرب، وحافظوا على قيادتهم النقابية بشخص أمينها العام د. نزار الزين. واستعادت حركة الأساتذة وحدتها بعد توقف المدفع، ليعود التواصل بين الفروع، وشكلوا في العام 1992 هيئة تحرّك «أساتذة الجامعة اللبنانية»، ضمــّت ممثلي الأساتذة، تحت شعار إعادة العمل بالمجالس التمثيلية الذي لم يُقرّ إلا في نيسان العام 2009 (القانون 66).
ويختم الجوهري أن المطلوب من مجلس الجامعة، إبعاد الجامعة وتحييدها كمصلحة مستقلة عن الأوبئة التي تعصف بالبلد، كي تصبح واحة علم ومعرفة.

لبنان ACGEN اجتماعيات السغير تربية وتعليم