اصاب التعطيل المتعمد للعمل المؤسساتي الرسمي في لبنان، ليس فقط المؤسسات الرئيسية مثل رئاسة الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء، بل ايضا هيئات وطنية مثل مجلس الخدمة الوطنية، الذي هو رسمياً الجهاز الاساسي ذات الصلاحية الواسعة في مجال الوظيفة العامة والموظفين/ات. وبنتيجة سياسات التعطيل الممنهجة التي مورست منذ التسعينات، برزت هيئات "اهلية" ذات وجه طائفي صارخ، لتتناتش دور المجلس، مما عمّق واقع التوظيف الطائفي في لبنان.
انشأ مجلس الخدمة المدنية في 1959، وانيط به جميع ما تحدده له القوانين والأنظمة فيما يتعلق بتعيين الموظفين/ات وترقيتهم/ن وتعويضاتهم/ن ونقلهم/ن، وتأديبهم/ن وصرفهم/ن من الخدمة، الى جانب مهام تنظيم الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات، وخصوصاً إعداد الموظفين/ات للوظيفة وتدريبهم/ن أثناء الخدمة. وقد اريد للمجلس ان يضمن تحرير إدارات الدولة من الضغوطات المختلفة، ولا سيما الطائفية منها والسياسية. (للاطلاع بالتفصيل على عمل المجلس، الرجاء مراجعة الرابط التالي: (http://bit.ly/1RRfVxd
تشير بعض المصادر المتابعة، انه "ما خلا المرحلة حتى أواخر الستينيات" لم يتمكن المجلس من تحقيق الاهداف التي رسمت له وتأمين مبدأ الكفاءة في التعيينات، اذ ان ممارسة المحاصصة الطائفية بين القوى السياسية كانت السائدة، وقد اشتدت تلك الممارسات بعد اتفاق الطائف وتعديلاته الدستورية .
فيما نصت المادة 95 المعدلة من الدستور اللبناني على ضرورة استبدال قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة، الا انها استثنت من تلك المعادلة وظائف الفئة الأولى، حيث يجب تأمين مناصفة بين المسيحيين/ات والمسلمين/ات. لكن للاسف، ما يطبق في لبنان منذ الطائف الى اليوم مخالف لتلك المادة الدستورية، اذ يجري في معظم الحالات خرق مبدأي الكفاءة والاختصاص، خدمة لمصالح وتوازنات طائفية. وعليه، انتشرت الممارسة السياسية الطائفية في الوظيفة العامة لتطال موظفي/ات الفئات الثانية والثالثة وحتى الاخرى، دون ان يجرؤ المجلس على تحريك ساكناً.
ولما بات دور المجلس معطلاً بسبب تلك السياسات الهدامة، برز عدد من المجموعات ذات الصبغة الطائفية الواضحة التي اخذت تتعدى على دوره وصلاحياته، من خلال انشاء مراكز خاصة بها لتقوم بمهمات رديفة من خلال تدريب واعداد اعضاء كل طائفة من اجل الحصول على وظائف في القطاع الرسمي، وذلك تحت حجج براقة منها الاصلاح واخرى محاربة تهميش بعض الطوائف.
وعليه، جرى تأسيس جمعية لابورا منذ نحو خمس سنوات لتوجيه الشباب/ات وتدريبهم/ن من اجل تأمين الوظائف لهم/ن في القطاعين العام والخاص، حرصاً على حصة المسيحيين/ات في الادارات الرسمية، كذلك اطلق الحزب التقدمي الاشتراكي خلال شهر ك1 الحالي، "المركز التقدمي للاعداد والتدريب" وذلك بحسب مصادر الحزب "لإعداد وتدريب شباب/ات قادرين/ات على الانخراط الفعلي في الاصلاح وتطوير الادارة، مكافحة الفساد، ودعما للقطاع العام".
وتأكيداً للمنحى الخطير الذي تسلكه اكثرية القوى السياسية يمكن الاشارة الى جملة تعينات طالت عدد من المؤسسات الرسمية خلال السنوات القليلة الماضية (كهرباء لبنان، وزارة التريبة، متطوعو/ات الدفاع المدني، الخ...) انجزت على قاعدة التوافق والمحاصصة الطائفيتين. اما حين يختلف زعماء الطوائف، فيحصل التعطيل كما مؤخراً في مباريات الدخول الى مؤسسة كهرباء لبنان والى الضمان الاجتماعي، حيث تجمدت عملية تعيين مئات الناجحين/ات في مباريات مجلس الخدمة المدنية.
ظاهرة تطييف الوظائف والاستخدام، لا تنحصر طبعاً في المؤسسات الرسمية فقط، بل باتت منذ عقود وخصوصاً بعد اندلاع الحرب الاهلية في 1975 سمة طاغية في القطاع الخاص ايضاً، غير ان الحديث حول ذلك يطول ويستلزم وقفات اخرى.