أيّ مواطنة يعيشها اللبناني في ظل سيطرة المؤسسات الطوائفية التي تمثّل كيانات مستقلة داخل الدولة؟ دراسة علميّة تعالج هذا الأمر ميدانيّاً وبالأرقام، فتكشف جوانب وأبعاداً تظهر أن «الدول الطائفية» أكبر من الدولة
حياة مرشاد
يُظهر بحث نفّذته مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي، أنّ التمييز القائم على أساس النوع الاجتماعي مرتفع داخل المؤسسات الطائفية اللبنانية، إذ نجد نسبة كبيرة من النساء العاملات في هذه المؤسسات يعانين التمييز بسبب التقليد السائد، الذي يحصر دور المرأة في الرعاية وتقديم الخدمات، فيما لا تتعدى نسبة النساء في الوظائف والإدارات العليا الـ1 أو الـ2% مما يعكس النظرة الدونية للمرأة كمواطنة من الدرجة الثانية، وبعيدة عن مراكز اتخاذ القرار.
وتشير ريم الزبن، الباحثة والمدربة في «مجموعة الأبحاث»، إلى أن الكثير من الخدمات التي تقدّمها النساء في تلك المؤسسات هي في الأغلب تطوّعية أو مقابل أجر زهيد، هذا فضلاً عن الشروط التي تفرض على المرأة العاملة في المؤسسات الطائفية كالالتزام بالزي الشرعي، وفي المقابل تحرم المرأة المحجبة العمل في العديد من المؤسسات المسيحية.
تاريخية هذه الإشكالية، وانعكاسها على المواطنية اللبنانية تعود إلى الامتياز الذي منحته المادة السابعة من القرار 60 الصادر عام 1936، التي أعطت الطوائف الحق في تنظيم نفسها، وجعل صلاحياتها مطلقة وغير خاضعة إلّا لنظامها الداخلي.
واستناداً إلى الامتياز الممنوح لها في القانون، تؤدّي الهيئات الطوائفية، التي تأسّس عدد كبير منها قبل الاستقلال وفي العهود الأولى منه، دوراً أساسياً في مجالات التعليم والثقافة والصحة والرعاية والمساعدات الاجتماعية، إذ تتفوّق على مؤسسات الدولة في تقديم الكثير من الخدمات الاجتماعية للمواطنين.
مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي سعت إلى تبيان دور تلك الهيئات في مجال الخدمة الاجتماعية، لمعرفة مدى قدرتها على التأثير في السياسات العامة للدولة في مجالي الصحة والتعليم، وذلك من خلال مشروع بحثي، تعمل حالياً على نشر نتائجه اللافتة، إلى جانب دراسة قانونية عن هذه الهيئات وخريطة تظهر توزّع خدماتها في مختلف المناطق اللبنانية.
ويُظهر المشروع أنّ كل مؤسسة طائفية لها سياساتها التربوية والصحية الخاصة بها والمنعزلة عن سياسة الدولة، ويوصي بضرورة وضع الدولة سياسة عامة موحّدة وملزمة للمؤسسات الطائفية كلها، مع احتفاظ المؤسسات المعنية بخصوصية مقبولة.
وتلفت الزبن إلى أن المنح والمساعدات الخارجية التي تحصل عليها المؤسسات الطائفية هي من أخطر الأمور التي لحظها الباحثون العاملون على المشروع، إضافةً إلى المبالغ الطائلة التي تدفعها الدولة اللبنانية لتلك المؤسسات، التي أُنشئت لهدف خيري، وتحولت اليوم إلى مؤسسات ذات تكلفة عالية، من دون مراقبة جدية، حيث تخصص مثلاً مبلغ 20 مليون دولار سنوياً لمدارس خاصة تابعة لمؤسسات دينية بدلاً من استخدامها في دعم المدارس الرسمية لتصبح قادرة على استيعاب أكبر عدد ممكن من التلاميذ، وتأمين مستوى تعليم متطوّر لهم، ويمكن إبراز إحصاءات مماثلة لكشف مدى الدعم الحكومي للمستشفيات الطائفية على حساب الرسمية منها.
واستناداً إلى بعض الإحصاءات التي جمعتها مجموعة الأبحاث عام 2009، نجد أن العدد الإجمالي للمستشفيات في لبنان بلغ 117 مستشفى تحوي 17650 سريراً. يمثّل القطاع العام نسبة 17.5% فقط من مجمل عدد المستشفيات، وبقدرة استيعابية تبلغ 15%، مقابل قدرة استيعابية تبلغ 44.5% للمستشفيات الطائفية التي تمثّل نسبة 27% من المجموع الكلي للمستشفيات في لبنان، مما يظهر بوضوح الواقع المتدني للقطاع العام في تقديم الخدمات الصحية للمواطنين.
أما في ما يخص دور الدولة في قطاع التعليم، فحدّث ولا حرج، إذ يظهر المشروع انعدام تكافؤ الفرص بين اللبنانيّين الذين أتحفتهم دولتهم بقانون إلزامية التعليم حتى سن الخامسة عشرة، متناسيةً أعباء المدارس الرسمية المفترض أن تكون «مجانية»، من النقل إلى الكتب والقرطاسية، التي لا تغطيها الدولة، فضلاً عن الفارق الكبير في المستوى التعليمي بين المدارس الرسمية المترهّلة بمعظمها والمدارس الخاصة الطائفية منها والتجارية. ويبلغ عدد المدارس الرسمية في لبنان 1369 مدرسة مقابل 524 مدرسة طوائفية، و865 مدرسة خاصة غير تابعة للطوائف، وتمثّل نسبة الطلاب في المدارس الطوائفية نحو 35% من إجمالي نسبة طلاب المدارس الرسمية والخاصة في ظل توجّه المواطنين إلى الالتحاق بالمدارس الطائفية بغضّ النظر عن كلفتها المادية. ومن الواضح، وفقاً للتوزع الجغرافي للمدارس، أنّ المدارس الطوائفية المسيحية موجودة على المساحة الجغرافية اللبنانية كاملة، من الشمال إلى الجنوب، على عكس المدارس المسلمة الموجودة فقط في المناطق التي تغلب عليها الطائفة التي تنتمي إليها المدرسة. وبمراجعة الإحصاءات، تمتلك الطائفة الشيعية 79 مؤسسة تعليمية، أي ما نسبته 15% من مجمل المدارس الطوائفية، ويمتلك حزب الله 26 مدرسة من تلك التابعة للطائفة، مقابل 7 مدارس للطائفة الدرزية. بدورها، تشغل المدارس السنيّة نسبة 20% من مجمل المدارس الطوائفية في لبنان، وهي النسبة الأكبر بين المدارس المسلمة. في الجهة المقابلة، هناك 338 مدرسة مسيحية تتبع لسبع طوائف تعدّ الطائفة المارونية أكبرها عدداً. وتمتلك الأخيرة عدداً كبيراً من المدارس التابعة للمطرانيات والرهبانيات المختلفة تبلغ نسبتها 30.5% من مجمل المدارس الطوائفية، 42 منها تابعة للمطرانيات المارونية. كما تمتلك الطائفة اللاتينية، إحدى أصغر الطوائف المسيحية في لبنان، لكن أهمها على صعيد التعليم، عدداً كبيراً من المدارس.
الصحة والتعليم للجميع
يكشف عمر طرابلسي ، منسق المشاريع في مجموعة الأبحاث، السعي إلى التعاون مع جمعيات المجتمع المدني والمنظمات الشبابية والطلابية المهتمة بالمواطنة والصحة والتعليم والمعنيين، لتنظيم لقاءات حوارية تتناول نتائج البحث. وأكد طرابلسي أنّ هذا العمل ينطلق من الحاجة إلى إعادة ترتيب الأولويات الاجتماعية، إذ يجري التركيز على القضايا الجوهرية، على رأسها الصحة والتعليم للجميع، والأمان الاجتماعي بهدف تعزيز الحركة المطلبية وتأليف قوة مدنية ضاغطة فعّالة تسهم في رسم السياسات الوطنية الحكومية وتعديلها.(الأخبار 6 أيار2010)