شباب وشابات لبنان بين غياب الاستراتيجيات الرسمية ومتطلبات سوق العمل

غالبا ما ترتبط الاختصاصات الجامعية-المهنية في أي مجتمع من المجتمعات نامية كانت أم متقدمة بحاجات سوق العمل، وعليه يتم وضع استراتجيات عملية من قبل القائمين على الشأن التربوي سواء كانوا ممثلين لجهات تربوية حكومية أو خاصة، من أجل التوفيق ما بين متطلبات سوق العمل والاختصاصات التي توفرها الجامعات والأكاديميات المهنية، إضافة الى الدراسات التي تكشف ما إذا التعليم الذي يحصل عليه الطلاب متلائما مع سوق العمل، كما ترشد الى الإجراءات الضرورية لإصلاح الوضع.
لكن هذه المعادلة، لا تجد لها طريقا الى التنفيذ في لبنان في ظل غياب أية رؤية رسمية توجيهية شاملة للنهوض بالاقتصاد وسوق العمل، وتردّي الأوضاع الاقتصادية احياناً بسبب الظروف الأمنية وإهمال القطاعات الإنتاجية، الأمر الذي لا يولد فرص عمل كافية لليد العاملة الماهرة فيهاجر معظمها بحثا عن ظروف أفضل.
إن نظرة سريعة إلى ما هو متوفر من إحصاءات يبيّن أن سوق العمل في لبنان تشوبها اختلالات عميقة جداً، وهذا ما يظهر بصورة جلية لدى مراجعة الإحصاءين الرسميين اللذين وضعا عن أوضاع السكان في سنتي 1996 و2004. وبالمقارنة مع أعداد الفئات العمرية، يتبين أنه خلال الفترة الماضية كانت النسبة الصافية للمهاجرين للعمل من الفئات العمرية مرتفعة، وهذه النسبة هي الأعلى بالنسبة الى الشبان والأدنى بالنسبة الى الشابات. وإذا نظرنا الى إحصاءات أخرى يتبين انه في مختلف الاختصاصات ولا سيما الاختصاصات العلمية، تتجاوز نسبة المغادرين الثلثين، بل تبلغ الثلاثة أرباع. يترتب عن ذلك جملة نتائج ظاهرة للعيان، إذ يجعل مستويات الدخل التي يطمح إليها اللبنانيون غير مرتبطة بالقدرات الإنتاجية المحلية، كما يدفع بالجامعات لان تسير بهذا الاتجاه لتتكيف مع بنية الطلب الناتجة من الارتباط الحاسم بالسوق الخارجية للعمل، وبتعبير اخر، يمكن الاستنتاج ان تخصصات الجامعات ومناهجها وتكلفة الدراسة فيها تبنيان ليس على أساس توقع الدخل الذي يمكن أن يحصله الطالب في سوق العمل المحلية، إنما من مردود عمله خارج لبنان. ان هذا الاختلال في سوق العمل يرتبط مباشرة بطبيعة الاقتصاد اللبناني القائم اساسا على قطاع الخدمات (مصارف/سياحة/تحويلات)، والذي لا يفسح المجال امام نمو القطاعات الأخرى مما يدفع بالمتخرجين إلى الهجرة بحثا عن سوق عمل يستطيعون من خلاله توظيف خبراتهم/ن.
ومن الأمثلة على ذلك، تحويلات المهاجرين التي تعتبر أموالاً غير ناتجة من إنتاج محلي، يتعامل معه الناس كما لو أنه دخل إضافي ويمكن استخدامه لتمويل الاستهلاك، وهذا يساهم في زيادة حجم الاستيراد، ورفع الأسعار، ويصبح الاقتصاد المحلي مرتكزاً على الأنشطة الخدماتية، فترتفع تكلفة المعيشة، ثم يعتُمد على اليد العاملة الأجنبية لزيادة ربحية هذه الأنشطة، وتتقلص فرص العمل للبنانيين نسبة إلى تكلفة معيشتهم، وبالتالي فإن دفق هذه الأموال يغذي الهجرة، والهجرة تغذي دفق الأموال.
وفي هذا السياق، لا بدّ من التطرق ايضاً الى الإهمال اللاحق بالتعليم المهني في لبنان. فقد اشارت دراسة الخبير في التعليم والتدريب الدكتور عبد المجيد عبد الغني، الى انه على الرغم من الأهمية التي يمكن أن يلعبها التعليم المهني والتقني في تلبية احتياجات سوق العمل المحلي، إلا أن هذا نظام غير موجه في لبنان بالشكل الصحيح لتلبية احتياجات سوق العمل بحسب المسار الاقتصادي الحالي الذي يعمل وفق مواجهة تحديات العولمة ووجود ضعف في آليات سوق العمل.
وتضيف الدراسة ان على نظام التعليم المهني والتقني ان يقدم بــرامــج مبنية على دراســات منهجية لاحتياجات ســوق العمل تجريها الأجهزة الحكومية المعنية التي تدير وتنظم قطاع التعليم المهني والتقني، وان يــقــدم النظام برامج مبنية على طلب سوق العمل والتغذية الراجعة من المعنيين في السوق، لكن البرامج التربوية الخاصة بالتعليم المهني والتقني في لبنان لا تقوم بدورهـــا لناحية حــاجــة السوق إلى عــمــال وتقنيين مــن أصحاب المهارات والكفاﺀات، لا سيّما في ما يتعلق بقطاع الصناعات الغذائية أو الإنتاجية الأخرى، ناهيك عن حاجة قطاع الخدمات الى يد عاملة وكفاءات متطورة وعملية، لا توفرها عادة لا الجامعات ولا المهنيات في لبنان.