احتاجت وزارة التربية إلى 13 عاماً لتتنبّه إلى أن بعض المواد التي أدخلتها في المناهج التربوية الجديدة، تدرّس، إن درّست، على «التساهيل»! لذا، بدأت خطة للتعاقد مع أساتذة لتدريس هذه المواد، دون أن تأخذ بعين الاعتبار أن لديها أساتذة ملاك متخصصين بتلك المواد، لكنهم يدرّسون مواد أخرى
راجانا حمية
كانت ذكرى الاستقلال هي الحدث، وكان على مازن ياسين، مدرّس الفنون التشكيلية في مدرسة أمين بيهم الابتدائية الرسمية، أن «يخترع» نشاطاً للمناسبة. لم يكن في حوزة ياسين إلا التكليف الإداري، وما عدا ذلك لا شيء. حتى أوراق الرسم كان عليه استعارتها من مكان ما أو شراؤها، وهي أبسط الأدوات التي قد يحتاج إليها مدرّس فنون.
لم يكن في يد المدرّس حيلة إلا «طلب النجدة» من تلامذته، فدخل الحصة الأولى في أحد الصفوف، قائلاً لهم: «عنّا نشاط عن عيد الاستقلال، حدا عندو تياب جيش بالبيت؟». وطلب ممن يملك تلك الملابس أن يأتي بها إلى الصف. ثم كرّر ما شرحه في صف آخر، وأتبعه بطلب «إذا حدا عندو كرتون بالبيت، يجيب معه للحصة الجاية».
هكذا، من صفٍ إلى آخر، اكتملت لائحة ياسين: بات لديه اللباس العسكري للعرض وكراتين رسم الأعلام اللبنانية والألوان وكل شيء، ولم يعد ينقصه إلا البدء بالتمارين.
كان على ياسين أثناء «البروفات» أن يتقمّص مهمات معلمَين آخرَين ليسا موجودين في المدرسة ولا في معظم المدارس أيضاً، وهما مدرّسا المسرح والموسيقى. لذا، لم يكن في المدرسة لقب مناسب لياسين أكثر من لقب مدرّس الـ«كذا مادة». ياسين ليس إلا مدرّساً واحداً من مدرّسي المواد الإجرائية الجديدة (المسرح والموسيقى والفنون التشكيلية والمعلوماتية والتكنولوجيا واللغة الثانية) الذين لا يملكون من أدوات تدريس موادهم إلا أنفسهم. حتى المدارس التي خُصص لها بعض أساتذة المواد الإجرائية، انقلبت أدوارهم داخل المدرسة لمصلحة تدريس مواد أساسية. والسبب؟ إما قلة الاهتمام بالمواد الإجرائية، على اعتبارها «ثانوية»، ليست ذات قيمة، وإما النقص في عدد معلّمي المواد الأساسية والحاجة الى سد الفراغ.
لكن أهمّ ما يدلل على قلة الاهتمام تلك، أن هذه المواد كان من المفترض أن تدرّس منذ 13 عاماً، أي منذ تطبيق المنهجية التربوية الجديدة، لتستفيق وزارة التربية والتعليم العالي على إدخال هذه المواد في المنهجية بصورة جدية الآن.
لكن الخبر، على أهميته، ليس هنا. بل في طلب الوزارة التعاقد مع مدرّسين جدد لتدريس هذه المواد. والسؤال هنا لمَ هذا «الهجوم» على تأمين أساتذة متعاقدين، في وقت يتوافر فيه أساتذة في الملاك لتلك المواد، لكنهم يعلّمون مواد تعليمية أساسية؟ لِمَ لا تؤمن الوزارة عودتهم لتدريس مواد اختصاصهم؟ ومن المسؤول عن توفير أدوات و«قرطاسية» لموادهم الإجرائية في حال عودتهم؟ وإذا عادوا، فكيف ستسدّ الوزارة النقص في الهيئة التعليمية للمواد الأساسية؟
في المبدأ، وعندما بدأ العمل بالمناهج الجديدة، لم تتخذ الوزارة قراراً بإلزامية تدريسها، ما أدى إلى استنسابية في تعليمها بحسب الإمكانات المادية المتوافرة للمدارس وعديد الكادر التعليمي. كان هذا الخطأ الأول. أما الخطأ الثاني، فكان عدم حرص الوزارة على أن يدرّس هؤلاء الأساتذة موادهم. وكان من نتيجة ذلك فرض بعض المديرين على أساتذة المواد الإجرائية تعليم مواد أخرى لا تمتّ لاختصاصهم بصلة. وتورد بعض المدارس جملة حجج، تتعلق بتلكؤ وزارة التربية في إرسال أدوات تدريس هذه المواد للأساتذة، وهو ما يرفض تحمل مسؤوليته مدير المنطقة التربوية لبيروت محمد الجمل جملة وتفصيلاً. فقد أشار في حديث إلى «الأخبار» إلى أن «التجهيزات ليست من مهمات وزارة التربية، فللمدير الحق في صرف ما يحتاج إليه من صندوق المدرسة، دون الرجوع إلى الوزارة». لكن ليلى الزيات، مديرة إحدى المدارس الرسمية، تعارض هذا التفسير لمهمات الوزارة فتشرح أنه «أحياناً، ندرج في الموازنة حاجات هذه المواد، لكن وزارة التربية قد ترتئي عدم صرف بعض المبالغ بحجة أن هناك مطالب أكثر أهمية». تنهي المديرة تعليقها، قبل أن تفتح الناظرة أسمات كاعين السجل المالي، مشيرة بإصبعها إلى خانة الوسائل التربوية الفارغة «التي لم تصرف لها الوزارة حتى الآن أي مبلغ مالي».
جولة واحدة على المدارس الرسمية كافية لاكتشاف النقص في كل شيء: حتى غرف الرسم والمسرح غائبة، وإن وُجدت فعلى حساب الطلاب والأساتذة، أما الوزارة، فلا تؤمن أكثر من بعض «الكراسي والطاولات، وعادة بتكون هبات»، تقول فاديا، إحدى الناظرات في متوسطة رسمية. أما الأساتذة، فلا يوجد في المدارس إلا واحد من أصل 5، وهو أستاذ الفنون التشكيلية في الغالب، وهم إن كانوا يعلّمون موادهم، فمن «جيب الطلاب» يأتون بأدوات الرسم أو مما هو موجود في الإدارة أو في البيت.
هذا، على الأقل بالنسبة إلى من لا يزالون يتذكرون اختصاصهم، أما من نسي منهم بعدما بات مدرّساً لمادة أخرى لسنوات، فيطالب بالعودة إلى مادته الأساسية. وفيما يرفع هؤلاء الصوت مطالبين بتأمين عودتهم لتدريس موادهم، ترفض الوزارة الاعتراف بأن ثمة أساتذة يعلّمون في غير اختصاصهم! يقول الجمل إنه «على الأقل ضمن حدود منطقة بيروت لا أحد يدرّس في غير اختصاصه». وإن وُجد البعض ممن «تستفيد» منهم إدارة المدرسة في التدريس العادي، حسب تعبيره، فـ«لأنهم في دور المعلمين يدرّسون موادّ كثيرة، إضافة إلى مواد اختصاصهم». لكنهم، ليسوا «بعض». هم غالبية مدرّسي هذه المواد. هنا، يشير الجمل إلى أن «الوزارة لا تسمح بهذا الأمر، وقد أصدرت أخيراً تعميماً بمنع أي أستاذ من تعليم مادة غير مادته». لكن، إذا كان الجمل على علم بما يحصل في منطقته، فماذا عن المناطق الأخرى التي تخرق فيها التعاميم منذ بدء العمل بالمنهجية الجديدة، بحسب ما يشير أحد مديري المناطق التربوية الذي رفض الكشف عن اسمه؟ ولم لا تعيدهم وزارة التربية الى اختصاصاتهم الرئيسية؟ وإن كان الجمل لا يزال مصرّاً على الرفض، إلا أنّه يقول «حتى لو عادوا، فالملاك لا يمكن أن يسدّ كل النواقص، ففي مادة التكنولوجيا مثلاً ليس هناك مكان ولا معدات ولا أساتذة في الملاك». لكل هذه الأسباب، يبرر الجمل سبب طلب الوزارة «متعاقدين، على أن يبدأ تدريسها عقب انتهاء الفصل الأول». ينتقل الجمل إلى الحديث عن «آلاف المتعاقدين» الذين تقدموا في المناطق، شارحاً آلية قبولهم. ويشير إلى أنه جرى تشكيل لجنة لكل مادة في كل منطقة تربوية، من أجل درس الطلبات، مشيراً إلى أنه في بعض الاختصاصات «أُخذ كل من تقدموا للنقص في الأعداد، حتى إن بعض المتعاقدين اشترطوا دواماً جزئياً وآخرين وزّعنا حصصهم على مدرستين أو ثلاث لسدّ النقص». أما عن أساتذة تلك المواد في الملاك، فلفت الجمل إلى أنهم «سينتقلون إلى تعليم موادهم هذا العام بصورة طبيعية». لكن، ماذا عن أمكنتهم الفارغة؟ الجواب حاضر: «نستعين بالمتعاقدين، فبالنسبة إلينا نحتاج إلى التعاقد إلى حين إدخال دم جديد إلى الملاك». وإلى حين تبديل هذا الدم، ستبقى الوزارة على حالها: تعاقد ثم تعاقد ثم تعاقد.. إلى حين خروج من هم في الملاك الى التقاعد.
كلّ المواد إلا التكنولوجيا
في إطار «خطة تطوير التعليم الرسمي وتأمين مستلزمات تدريس المواد الإجرائية في مختلف المدارس الرسمية»، أعلنت وزارة التربية والتعليم العالي فتح باب التعاقد بالساعة مع مدرسين لمواد الموسيقى والفنون التشكيلية والأنشطة البدنية والرياضية والمسرح والمعلوماتية واللغة الثانية.
فيما استثني من الطلب مادة... التكنولوجيا! إذ أرجئت إلى «وقت آخر»، حسب ما يشير مدير المنطقة التربوية لبيروت محمد الجمل. أما سبب هذا الاستثناء، فيشير الجمل إلى أن «التكنولوجيا تحتاج إلى مختبرات كبيرة غير موجودة أصلاً في المدارس، إضافة إلى أن أساتذة تعليم هذه المادة قليلون جداً، وخصوصاً أن من يستطيع تدريس هذه المادة هم الحاصلون على إجازة في الفيزياء أو إجازة مهنية، وهؤلاء قليلون قليلون». وبالعودة إلى المواد المطلوبة، فقد لفت الجمل إلى أنه «جرى انتقاؤهم وتوزيع معظمهم، فيما توزّع البقية منهم خلال هذا الأسبوع أو الأسبوع المقبل على أبعد تقدير».(الأخبار 11 كانون الثاني2011)