لم يعد خافياً على أحد في لبنان حجم الصعوبات والمشاكل الاجتماعية التي تعاني منها طرابلس على الصعد كافة. فالمدينة التي يفترض أن تكون عاصمة ثانية وأن تعامل من قبل الدولة ومؤسساتها على ذلك الأساس، بات يتناوب عليها الفقر والحرمان والإهمال والتهميش. وبدأ ذلك يترجم مزيدا من الأزمات المعيشية التي تنذر بمستقبل بائس ومظلم لا بل خطير لـ «مدينة العلم والعلماء»، خصوصا أن الأرقام الصادرة عن الهيئات الدولية و»برنامج الأمم المتحدة الإنمائي»، التي من المفيد التذكير بها، تشير إلى تراجع كبير جداً للمدينة على الصعيد التنموي، ما يجعلها بحاجة ماسة إلى إعلان حالة طوارئ للنهوض بها، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
ويمكن القول إن طرابلس كانت على مدار السنوات الست الماضية شريكة في غرم السياسة المحلية وتجاذباتها ورسائلها المتفجرة فقط. ولم تنل يوماً نصيبها من الغنم الذي حققته السلطة عبرها. ولم يشفع لها أنها منحت هذه السلطة الأكثرية النيابية في دورتين انتخابيتين، مؤمّنة الخزان البشري الداعم لها في الاستحقاقات الكبرى، وأنها دفعت دماً ودماراً وتشريداً وشللاً اقتصاديا ثمناً لخياراتها السياسية ووقوفها إلى جانب الرئيس سعد الحريري، من دون أن تحقق أي مكاسب، أقله من باب رد الجميل على صعيد تنفيذ المشاريع، وبثّ الروح في مرافقها الأساسية المعطلة (معرض رشيد كرامي الدولي»، والمصفاة ومطار القليعات). بل على العكس من ذلك، فقد المدينة تعرضت لكثير من الاستخفاف واللامبالاة من قبل الحكومات الماضية، بدءا من «مؤتمر إنماء طرابلس»، الذي عقد في العام 2002 بدعوة من الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والتي لا تزال غالبية مشاريعه حبراً على ورق، مروراً بالوعود الكثيرة التي أطلقها الرئيس سعد الحريري وقبله الرئيس فؤاد السنيورة، سواء خلال الزيارات التي قاما بها إلى المدينة أو في استقبالهما الشخصيات والوفود الطرابلسية، وصولاً إلى المشاريع المبتورة التي أساءت إلى الفيحاء، والتي نفذت ليس بحسب الدراسات المعدة لها، وإنما بحسب الأموال المتوفرة، التي يجود بها «مجلس الإنماء والإعمار»، الذي يرأسه ابن طرابلس المهندس نبيل الجسر.
وشهدت طرابلس خلال السنوات الماضية نماذج من الاستخفاف، الذي لم يسبق للمدينة أن شهدته في تاريخها، ما انعكس سلباً على أبنائها، الذين رفعوا الصوت مراراً وتكراراً لكن من دون جدوى، وعلى سبيل المثال لا الحصر قيام وزير الشباب والرياضة في حكومة السنيورة أحمد فتفت، بتدشين «قاعة رفيق الحريري الرياضية» في الميناء قبل نحو ثلاث سنوات، وهي «على العضم»، ووضع لوحة رخامية على مدخلها تؤرخ لذلك التدشين، الذي بقي شاهداً على الإهمال، بينما ما تزال القاعة على حالها من التصدع بعد توقف المشروع فيها نظراً لغياب التمويل. إضافة إلى «الزيارة الإنمائية» التي قام بها السنيورة إلى طرابلس عشية الانتخابات النيابية في العام 2009، حيث دشّن العمل في محطة التكرير عند مصب نهر أبو علي، ولم يكن قد انتهى العمل على تمديدات المياه المبتذلة إلى المحطة. وقد وعد السنيورة حينذاك بسرعة إنجازها. لكن الأمور بقيت على حالها، ولم تصل التمديدات إلى المحطة التي بدأ يتآكلها الصدأ بعد نحو سنتين على تدشينها. أما المشروع الفضيحة، الذي وضع له السنيورة الحجر الأساس في زيارته التاريخية، فهو مشروع الأوتوستراد الذي فصل طربلس عن الميناء، بحجة عدم توفر الأموال لإقامة الجسور اللازمة، قبل أن يهبّ مجتمع المدينة، ويعيد تصويب المسار على الورق فقط، فيما يبقى المشروع في علم الغيب. ذلك بالإضافة إلى كثير من العراقيل والعقبات التي تجعل عدداً لا يستهان به من المشاريع تراوح مكانها، فضلاً عن الطرق التي باتت في حال يرثى لها.
ومما زاد الطين بلة، بعد الانتخابات النيابية الأخيرة غياب حكومة الحريري عن الاهتمام بطرابلس، نتيجة الشلل الذي عانته بفعل التجاذبات السياسية، وتوقف «تيار المستقبل»، الذي انشغل ببناء حزبه وإعادة هيكلته، عن تقديم المساعدات والخدمات لأنصــاره بشكل شبه كامل، ما ضاعف من حجــم معاناة أبناء المدينة.
دراسات وأرقام جديدة
وتشير الأرقام الجديدة الصادرة عن الهيئات الدولية المهتمة بتنمية المدينة وفي مقدمتها «برنامج الأمم المتحدة الانمائي»، و»المفوضية الأوروبية»، والتي عرضها رئيس بلدية «اتحاد بلديات الفيحاء» السابق المهندس رشيد جمالي، في لقاء القطاعات المهنية لـ «منتديات العزم والسعادة»، إلى أن طرابلس تأخذ طريقها الانحداري نحو مزيد من الأزمات نتيجة ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتسرب المدرسي، وما إلى ذلك من أزمات معيشية واجتماعية من شأنها أن تدخل المدينة في النفق المظلم إذا لم تتضافر الجهود للمواجهة والإنقاذ. والايجابية الوحيدة المسجلة في تلك الأرقام، هي أن طرابلس ما تزال مدينة شابة بكل ما للكلمة من معنى حيث ان 58 بالمئة من سكانها هم دون الـ 24 عاماً، لكن المحزن أن 42 بالمئة منهم تركوا التعليم في وقت مبكر، وانصرفوا إلى مهن مؤقتة قد تفضي بهم إلى الشارع. وتعتبر طرابلس من أكثر المدن كثافة سكانية في العالم، حيث ان متوسط عدد السكان في الكيلومتر المربع الواحد يبلغ 9700 شخص، (في نيويورك الأميركية مثلاً 9500 شخص في الكيلومتر المربع الواحد)، إلا أن طرابلس تعاني من تفاوت كبير في التوزّع السكاني حيث تبلغ الكثافة مداها في محلة السويقة (68 ألف شخص في الكيلومتر المربع الواحد)، وتصل أدناها في المنطقة الجديدة في زيتون طرابلس (6200 شخص في الكيلومتر المربع الواحد).
وتظهر الأرقام أن 57 بالمئة من عائلات المدينة تعيش دون خط الفقر، وفي ظروف اجتماعية صعبة للغاية، وهو الرقم الأعلى في لبنان. وان 64 بالمئة من عائلات المدينة القديمة (متوسط عددها 5،2 أشخاص) لا يتعدى دخلها الشهري 330 دولارا أميركيا شهرياً. أما من جهة القدرة الاستهلاكية للفرد وقدرته على الإنفاق، فتحتل طرابلس المرتبة الاخيرة في لبنان، حيث يبلغ متوسط قدرة الفرد مليونين ونصف المليون ليرة لبنانية، في مقابل 6،5 ملايين في بيروت، و4،5 م. في جبل لبنان، و3،9 م. في النبطية، إضافة إلى أن البطالة وصلت نسبتها فيها إلى أكثر من 30 بالمئة.
أما في المؤشرات الاقتصادية، فيظهر من التوزع الجغرافي للتسهيلات المصرفية أن إجمالي التسليفات من القطاع المصرفي في طرابلس يبلغ 2 بالمئة فقط، في مقابل 8 بالمئة في سائر المحافظات اللبنانية، و83 بالمئة في بيروت الكبرى. وعلى صعيد انتشار المؤسسات الخاصة في لبنان، فتسجل الأرقام، 73 ألف مؤسسة في جبل لبنان، و71 ألف مؤسسة في بيروت، مقابل 17 ألف مؤسسة في الشمال ومن ضمنها طرابلس.
كذلك فقد تضمنت الدراسات أرقاما جديدة حول منطقة التبانة التي تصنفها الهيئات الدولية بـ «المنطقة الأسوأ على ساحل المتوسط»، فشهدت تراجعاً كبيراً خلال السنوات الماضية بفعل التوتر الأمني عند كل استحقاق سياسي. وتشير الأرقام إلى أن التبانة تضم 65 ألف نسمة، ومتوسط العائلة فيها سبعة أفراد. ويبلغ حجم التسرب المدرسي بين أبنائها من عمر 13 إلى 19 سنة 57 بالمئة. وتصل نسبة الأمية بين الرجال الى 26 بالمئة، وبين النساء 37 بالمئة. أما نسبة متخرجيها الجامعيين فلا تتعدى 3 بالمئة للذكور و7 بالمئة للإناث. ويعيش أكثر من 60 بالمئة من عائلاتها تحت خط الفقر، و27 بالمئة من العائلات تعيش بمبلغ 200 دولار شهرياً.
ويؤكد جمالي أن تلك «الأرقام مخيفة إلى حدود تهديد مجتمع المدينة برمته»، لافتاً إلى أن «طرابلس تعاني من فوارق اجتماعية كبيرة جداً»، ملاحظاً أن «الأرقام تصاعدت خلال السنوات الأخيرة، ما يتطلب معالجة سريعة لجهة جعل القضية الاجتماعية في العاصمة الثانية من أولى الأولويات». وأعرب عن قناعته بأن «مشاكل طرابلس لا تزال غير مستعصية على الحل». ويأمل جمالي أن يكون «وجود الرئيس نجيب ميقاتي على رأس الحكومة المقبلة بالتلازم والتعاون مع الوزير محمد الصفدي فرصة لإنقاذ وإنصاف طرابلس لإعادتها إلى الحياة العامة اللبنانية لتلعب دوراً لطالما تميزت به على مدار العهود السابقة».
ويبدي رئيس بلدية طرابلس الدكتور نادر غزال تفاؤله بالشراكة التي تجمع بين ميقاتي والصفدي، متمينا أن «تنعكس إيجاباً على طرابلس لجهة رفع مستواها المعيشي والاقتصادي والاجتماعي، ودعم المشاريع التي تنفذها البلدية من خلال تحصيل حقوقها من الصندوق البلدي المستقل».(السفير 3 شباط2011)