من تداعيات الفقر في القرى العكارية انتشار التسرّب المدرسي. الأهل يفسرون الظاهرة بعدم رغبة الولد في التعلم، بينما تغيب وزارة التربية عن المدارس الرسمية وتستقطب المدارس الخاصة المجانية التلاميذ بعيداً عن رقابتها. وعندما زار المفتش التربوي أحمد الرفاعي قرية تلبيبة لتبيان الحقيقة، سرت أحاديث عن رضاه عن سير الأمور هناك، ونُقل حديث عن أهالٍ من المنطقة أنهم راضون بأحوال مدارسهم
روبير عبد الله
من شرفة منزل مخدوميها، تراقب إنعام الحسين أولاد جيلها وهم يدخلون إحدى المدارس الخاصة في بلدة تلحميرة الواقعة في سهل عكار. تتحسّر ابنة الاثني عشر ربيعاً على مكان لم تره يوماً، بعدما ضاقت سبل أهلها في إطعام تسعة إخوة صغار لها، فأودعوها لخدمة مسنّ وزوجته من آل المرعبي. لكن لا يبدو أنّ أولاد المدرسة المجاورة أوفر حظاً من الصغيرة. فالمدرسة نفسها جُهّزت في سبعينيات القرن الماضي، لمرة واحدة فقط. وما عدا سيارة «الشبح» التي يملكها صاحبها، لم يطرأ أي تعديل على المكان. فالباص العتيق المخصص لنقل التلامذة مجاناً هو هو، فيما لا تزال الجدران تحتفظ ببعض الطلاء.
حتى غرفة الإدارة لا تخلو من رزمة قضبان مجمعة في إحدى زواياها، في إشارة إلى أنّ «الضرب ماشي»!
على بعد أمتار قليلة من المدرسة، يجلس أبو ياسين أمام منزله ومعه جاره حمزه إبراهيم. لا يبدي الرجلان أي ثقة بتلك المدرسة الخاصة. يقول الأول: «هذه المدرسة لا تعلم إلّا الدين، والمدرّس فيها من عامة الناس لا يعلم أي شيء عن الدين». أبو ياسين يفضّل مدرسة تلحميرة الرسمية، لكنّ أبناءه تركوا المدرسة قبل بلوغ صف البريفيه لسبب وحيد، «ما عندهم رغبة للعلم»، كما يقول الأب. أما الثاني، فقد غادر ابنه حسن المدرسة من الصف الثالث متوسط ليعمل في محل للميكانيك، بينما تركها ابنه إبراهيم من الصف الثاني ابتدائي للالتحاق بعمل أبيه في الأدوات الصحية. والسبب هو نفسه، «مش نافعين بالعلم». لكن النقاش بين الرجلين يكشف أنّ مشكلة تسرّب أبنائهم تتجاوز الرغبات إلى صعوبة الحياة المعيشية واضطرار الأبناء إلى العمل باكراً، للتخفيف من معاناة الأهل ومساعدتهم في المصروف.
وفي قرية في تلبيبة، أدى خلاف بشأن ترميم البناء المدرسي، الذي تتولاه إحدى الجمعيات الأهلية، بحسب أهالي البلدة، إلى «تركيب» فضيحة على شاشة إحدى المحطات التلفزيونية، تتحدث عن تقاضي مدير المدرسة الابتدائية الرسمية، دياب الأحمد، رشى عينية من الليمون والبقدونس والحليب، بكميات تتناسب مع كمية العلامات التي يمنحها للطلاب.
ويوضح الأحمد لـ«الأخبار» أنّ بعض جيران المدرسة لديهم مصلحة في إثارة هذه «الفضيحة» بعدما أفقدهم الترميم الساحة التي كانوا يركنون فيها سياراتهم وجراراتهم الزراعية ويحيون فيها مناسباتهم الاجتماعية.
بدورهم، يرفض الأهالي اتهام المدير بالرشى. تقول أمون الحسن، التي تعمل في الزراعة وتبيع الحليب بعد وفاة زوجها، «لم نرَ من المدير إلا كل خير، وإذا أخذ مني سطل لبن فبثمنه مثل باقي الناس». وفيما تلفت أمون إلى أنّ «كل ولادي تعلّموا في هذه المدرسة»، تسأل: «ما ذنب المعلمين إذا منعتُ شخصياً ابنتي من الذهاب إلى المدرسة من وقت إلى آخر عندما أضطر إلى العمل في الحقل؟». الفتى أنس ترك هو الآخر المدرسة في الصف الثاني ابتدائي، ليذهب مع أصحابه لسرقة الليمون، كما يقول، و«كنا نضرب حجارة على المدرسة والأساتذة، ولم يكن في المدرسة ملعب ولا تصوينة ولا شي مثل العالم والناس، ومع ذلك كان الأستاذ يلمّنا من الطرقات».
أما خالد البرهومي، فيستبعد أن يكون الخبر صحيحاً، وإلا لما استمر الرجل، في رأيه، 17 عاماً في إدارة هذه المدرسة. ويدعم رأيه بالقول: «واضحة، اللي عاملين العملة ناس كانو يستفيدو من ساحة المدرسة لربط البقرات وإحياء الأعراس والجنازات». فالفتاة سوسن التي ادّعت، بحسب البرهومي، أنّ «المدير يأخذ منها الحليب كاذبة، لأنّ أهلها ليس عندهم أبقار إطلاقاً».
عبد الله سليمان، والد التلميذ الذي ادّعى في التقرير المتلفز أنّ المدير يأخذ منه الليمون، لا يملك بستاناً لليمون «فقد لقّنوا ابني كلاماً كاذباً، وإذا أقفلت المدرسة فنحنا ما معنا مصاري حتى نسجلهم في المدارس الخاصة. وإذا كان أحمد فارس، مدير مدرسة الفارس الصغير الخاصة، سيعلم أولادنا ببلاش هذه السنة، فماذا عن السنوات المقبلة؟».
قصدت «الأخبار» فارس في بلدته ببنين، التي تبعد عشرين كيلومتراً عن تلبيبة. يبدي الرجل بعض التحفّظ قائلاً: «أنا طرف في قضية مدرسة تلبيبة الرسمية، لأنّها لا تضم منسقين، والمدير يعين بناته للتعليم في المدرسة». نسأله عن الأقساط في مدرسته الخاصة، فيجيب بأنّه يغطي مصاريف المدرسة من مدخول المدرسة المهنية التي يملكها، لافتاً إلى أنّ المدرّسات على أي حال «يتفهمن الوضع ويتحملننا بخصوص الرواتب!».
يميّز فارس بين المدرسة والمهنية اللتين يملكهما في ببنين، والمدرسة الخاصة التي يملكها والده درباس فارس في تلحميرة. لكن الأهالي يعدون مشاريع الأب والابن واحدة، وينظرون بريبة إلى قبول فارس الطلاب في مدرسته من دون إفادات مدرسية، كما يقول محمد خالد من قرية العريضة. وينقل خالد عن فارس قوله «أنا أؤمن الإفادات» حين سأله «ما العمل إذا امتنعت مديرة مدرسة العريضة عن إعطائي الإفادات المدرسية؟».
يشكو أهالي العريضة من رداءة حال المدرسة الرسمية. فالمبنى المدرسي عبارة عن غرف ملحقة بمسجد القرية. كذلك الأمر بالنسبة إلى مبنى مدرسة تلبيبة الذي كان من دون ملعب ومن دون «تصوينة». أما على المستوى الرسمي، زار المفتش التربوي أحمد الرفاعي تلبيبة لتبيان الحقيقة، فأكد له الأهالي بطلان التهم المنسوبة إلى مدير المدرسة، كما يقول الأستاذ في المدرسة نادر توفيق، الذي رافقه في جولاته على أهالي الطلاب، الذين لُقّنوا إفادات مفبركة بقصد الإساءة إلى المدرسة ودفع وزارة التربية إلى إقفالها.
أما رئيس المنطقة التربوية في الشمال، حسام الدين شحادة، فقد امتنع عن التصريح انطلاقاً من موقعه الوظيفي، واكتفى بالإشارة إلى أن المنطقة، بناءً على تكليف من وزير التربية والتعليم العالي الدكتور حسن منيمنة، تجري تحقيقاً في مدرسة تلبيبة الرسمية.(الأخبار26شباط2011)