إطلاق الإستراتيجية الوطنية للتنمية الاجتماعية

أُعدّت الاستراتيجية الوطنية للتنمية الاجتماعية تلبيةً لالتزام أعلنته حكومة لبنان ضمن إطار خطة العمل الاجتماعية التي قُدّمت في مؤتمر باريس ـــــ3 للجهات المانحة». بهذه العبارة تبدأ «الاستراتيجية الوطنية للتنمية الاجتماعية التي أطلقتها أمس وزارة الشؤون الاجتماعية في قصر الأونيسكو، وهي عبارة كافية للإشارة إلى المدلول السياسي، الذي عكسه نوع الحضور في حفل الإطلاق، والسياق الذي تأتي فيه هذه الاستراتيجية، ولا سيّما لجهة تعامل الحكومات المتعاقبة مع المسألة الاجتماعية باعتبارها عملية لملمة لبعض الآثار المباشرة التي تنجم عن السياسات العامّة المعتمدة لا بوصفها هدفاً أساسياً لهذه السياسات، علماً بأنّ الاستراتيجية المعلنة أمس، التي أعدّت مسودّتها مؤسسة البحوث والاستشارات بتمويل من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، حملت توصيفاً وعناوين لطالما كانت مرفوضة من القوى السياسية التي سارعت الى الاحتفال بإطلاقها

، لا بل إنّ هذه القوى لطالما عملت بعكسها تماماً، مسترشدة بوصفات صندوق النقد والبنك الدوليّين.
الكلمات في حفل الإطلاق ودردشات المشاركين كشفت أن هؤلاء غير مطّلعين كفاية على مضمون الاستراتيجية المعلنة، فبدا المشهد سُريالياً، إذ بدا المغالون في الدفاع عن تجربة العقدين الماضيين متباهين جداً بمشاركتهم في حفل إطلاق استراتيجية تدين ما يدافعون عنه، فجاء حفل الإطلاق بمثابة مهرجان سياسي، برعاية رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، وبحضور عدد من وزراء 14 آذار ونوابه، وحفلت الكلمات بسرد «إنجازات» التنمية غير المحققة، وكان لافتاً غياب ممثلي برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لمصلحة حضور قوي للبنك الدولي. وبحسب مصادر مطلعة، يعود الأمر إلى صراعات بين UNDP والبنك الدولي، وتنافس كلّ منهما على صبغ المشاريع بصبغته.
وكان لافتاً أيضاً أن التقرير الذي تضمّن الاستراتيجية المقترحة حُشي بلائحة إنجازات وزارات فاشلة جداً في مجال التنمية المنشودة، مثل وزارة المال، حيث تُدفن حسابات الدولة منذ نحو عقدين، ووزارة العمل التي وضعت يدها على هبة من البنك الدولي للضمان، لتوظّف محاسيب وأقرباء الشيخ بطرس حرب، ووزارة التربية ووزارة الشؤون الاجتماعية...
من المفارقات الغريبة التي حملتها الاستراتيجية، وجود مفارقة بين توصيفاتها واقتراحاتها؛ فتوصيف النمو الاقتصادي، على سبيل المثال، جاء مضاداً للنهج السائد منذ عقدين، وهو نهج الحريرية، إذ أشار إلى أن «النمو اقترن بتحولات عميقة برزت خلال العقدين الماضيين على المستويين القطاعي والمناطقي، بتأثير حاسم من السياسات المعتمدة، ومن تفاعل آليات السوق معها». ولفتت إلى أنه «من معالم هذه التحولات، بروز تورّم مالي ناجم عن صيغ تمويل عجز الموازنة وتعاقب طفرات عقارية ذات طابع ريعي، وخصوصاً في الإطار المديني، وانخفاض الوزن النسبي للزراعة والصناعة في الناتج المحلي القائم بنسبة لا تقلّ عن الثلث، فيما انحصر الإنتاج ذو القيمة المضافة العالية والقابلية للتصدير في رقعة ضيقة من الأنشطة الاقتصادية الشديدة التركّز، إلى جانب استمرار تفاوت اقتصادي حاد بين المناطق اللبنانية المختلفة واستمرار تركّز الجزء الأكبر من الثروة والدخل المحليين ضمن مدينة بيروت ومحيطها (بيروت الكبرى)، وقد انطوت هذه التحولات على أبعاد اجتماعية معقّدة، لم تكن الدولة مهيّأة لإدارتها ولاستيعاب مفاعيلها، فيما كان العجز والدين العام وخدمتهما تحتلّ جميعها الصدارة بين الأولويات».
إذاً، هذا الوضع أدّى إلى واقع اجتماعي مخيف، فبحسب الاستراتيجية، باتت شريحة واسعة تعيش تحت عتبة الخط الأعلى للفقر، أو ما بين هذا الخط ومستوى دخل الأسرة الوسطي، وهي شريحة تمثّل ما بين نصف المقيمين وثلثيهم في لبنان. وقد أصبحت هذه الشريحة ملزمة في حالات كثيرة بأن تلجأ إلى القطاع الخاص لتوفير احتياجاتها من الخدمات العامة... وذلك على الرغم من ضخامة ما أنفقته الدولة على تجهيز تلك الخدمات، ولا سيما الكهرباء ومياه الشفة...
وتقول الاستراتيجية إن الواقع الاجتماعي لمئات الألوف من الأسر اللبنانية بقي في وضع شبه مأزوم، فهي تدفع من جيبها أكثر من 60% من مجمل فاتورة إنفاق المجتمع على خدمات الصحة والتعليم، وينطبق هذا الأمر على صندوق الضمان الاجتماعي، حيث يخضع فرعيه (المرض والأمومة، والتعويضات العائلية)، لعجز مالي حاد متمادٍ، أما مشروع التقاعد والحماية الاجتماعية، فيدور في حلقة مفرغة بسبب «صعوبة إتمام المقايضات بين الأطراف».
في المقابل، ذهبت اقتراحات المعالجة في اتجاه مقولب وآليات كان قد اقترح معظمها البنك الدولي في دراسات سابقة، وهي الآراء نفسها التي عمل لبنان على أساسها طيلة العقدين الماضيين. فحدّدت الاستراتيجية 6 عناصر أولوية يندرج تحتها 53 هدفاً، وهي عناوين بديهية: تحقيق صحّة أفضل، تعزيز آليات الحماية الاجتماعية، الارتقاء بنوعية التعليم، تعزيز فرص العمل المتكافئة والآمنة، تنشيط المجتمعات وتعزيز تنمية الرأسمال الاجتماعي، تشجيع التنمية الاقتصادية ـــــ الاجتماعية، لكن تحديد الأهداف جاء لمّاعاً أكثر، مثل مقاربة تعزيز برامج الحماية الاجتماعية التي تحدثت عن تطوير نظام التقاعد، واستحداث صندوق للبطالة، وآلية تحديد الأسر الفقيرة... أما في ما خصّ «الارتقاء بنوعية التعليم»، فقد تحدثت عن ضرورة إنفاذ التعليم المجاني، ولم يجرِ التطرق إلى تعريف واضح للمناهج الوطنية ولا لطبيعة العلاقة بين سوقي التعليم والعمل... وفي الصحة جرى التركيز على «معالجة الاختلالات الأساسية في العرض والطلب»، و«مستوى الجودة»، وجاء دور وزارة الصحة عرضياً من دون التطرق إلى دورها في ضبط إيقاع السوق...(الأخبار26شباط2011)