وضعت الندوة التي نظمتها «الهيئة الأهلية لمكافحة الطائفية»، في قصر الأونيسكو السبت الماضي، حول «الطائفية والتربية»، الإصبع على الجرح الكبير المفتوح في جسم لبنان، وربما على المكان المناسب والرئيسي الذي يجب أن يبدأ منه التغيير كلٌّ من المجتمع المدني والجمعيات الأهلية التقدمية والعلمانية والوطنية، بما تهدف إليه من تعزيز الانتماء إلى الوطن والمواطنة.
وقد جاء الباحثون والمختصون، وتحديداً الدكتور علي خليفة والدكتورة اوغاريت يونان، لـ»يفضحوا» بالأرقام والمعطيات، كم أن الدولة، دولتنا، تخلت عن «أولادها»، عن سابق تصور وتصميم، ومنحتهم للطوائف تشكل انتماءاتهم وشخصياتهم، خصوصاً إذا ما أخذنا تعريف «الطائفة» كما اعتمده وزير الاتصالات شربل نحاس في محاضرته ضمن الندوة، بعين الاعتبار.
فقد فصل نحاس فصلاً تاماً ما بين الطائفة والدين، في تعريف جديد وحديث لمعنى «الطائفة» التي ما زالت ترتبط في لبنان بالدين بالدرجة الأولى. فـ»الطوائف، التي تقوم على القربى العائلية، لا علاقة لها بالدين»، وفق نحاس، «لأن العشائر والتحالفات القبلية مثلاً هي طوائف، ولا علاقة لها بالمذاهب»، معتبراً أن «الدمج بينهما هو انزلاق خطير في المذهبية». فيطالب بالحديث عن «الطائفة المذهبية او الدينية» للتفريق ولتحديد نوع الطوائف المعني بالحديث.
وتخطى «اتهام» الدولة بالتخلي عن أبنائها الرأي أو الانطباع، إلى الأرقام والمعطيات، خصوصاً الدراسات. فقال خليفة ويونان إن نسبة 70 في المئة من طلاب لبنان يدرسون في مدارس خاصة، وإذا استثنينا بعض المدارس العلمانية التي لا تزيد عن عدد اصابع اليد الواحدة في لبنان، وهي غير متاحة للجميع بسبب كلفتها المادية المرتفعة، لوجدنا أن سبعين في المئة من طلاب لبنان يتعلمون في مدارس طائفية.
وإذا كانت الدولة قد منحت في المادة العاشرة من الدستور طوائف البلاد الحق في إنشاء مدارسها، رافضة، وفق النص الدستوري، المس بـ»حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة»، فإنها تركت التعليم الرسمي، ينزلق إلى أسفل درك المستوى التعليمي والأكاديمي. ولم تكتف بذلك فقط، بل هي مستمرة في تمويل التعليم الخاص نصف المجاني، بما يوازي أو يفوق كلفة تطوير وتصحيح القطاع الرسمي بالمليارات، حيث تدفع عن كل تلميذ حوالى سبعمئة ألف ليرة لبنانية سنوياً. أليست الدولة، عبر ما تدفعه مباشرة إلى المدارس الخاصة، أو عبر تمويلها المنح التعليمية لموظفي القطاع العام والمؤسسات العسكرية عن تعليم أولادهم في الخاص، المموّل الرئيسي للقطاع التعليمي الخاص؟
وعليه، تكون الدولة، وعن سابق إصرار وتصميم، مسؤولة عن الأرقام التي أفضت إليها الدراسة التي تمحورت حول «شعور الانتماء الوطني وعناصر الثقافة المواطنية» التي عرضها الدكتور علي خليفة خلال ندوة الأمس.
تقول الدراسة التي شملت طلاب 161 مدرسة ثانوية في لبنان، إن «مشاعر الانتماء دون الوطنية (طائفية أو عائلية تنتظم، من خلال علاقات أفرادها، في إطار الطائفة الدينية)، تتصدر القائمة في كل المدارس. وتبين ان العائلة او الطائفة الدينية هما ما يذكره 63.5 في المئة من التلاميذ في طليعة شعور انتمائهم الجماعي».
ويمكن للرقم الثاني الذي استخلصته الدراسة أن يبين حجم الكارثة التي تسببت بها الدولة بتخليها عن النهوض بالتعليم الرسمي، إذ تقول الأرقام إن «أقل نسب التلاميذ المعبرين عن انتمائهم للعائلة (41 في المئة) وللطائفة (14 في المئة) هي في المدارس الرسمية، لمصلحة الانتماء إلى الوطن. ولا يأتي شعور الانتماء للوطن إلا في مرتبة أخيرة بنسبة لا تتعدى 27 في المئة من طلاب المدارس التي شملتها الدراسة. ومع ذلك، فقد لُمست هذه النسبة (الشعور بالانتماء إلى الوطن) في المدارس الرسمية، وهي أعلى مما هي عليه في المدارس العلمانية (17 في المئة) التي تتفوق بدورها عن المدارس الإسلامية (13 في المئة) والمسيحية (12 في المئة)».
وعلى الرغم من الفرق ما بين نسبة الذين يغلّبون الشعور بالانتماء للوطن في المدارس الرسمية (27 في المئة) عنها في العلمانية، فإن الدكتور خليفة يضع الاثنتين في خانة واحدة لتقارب نسبهما، بالمقارنة مع المدارس الدينية المتقاربة بدورها نسبةً لتدني الشعور عينه.
ولدى البحث عن باقي ما تعتبره الدراسة «متحرّكات مستقلة» من شأنها أن تؤثر بنسبة ما على صياغة شعور الانتماء الجماعي، انتقى الباحثون، بالإضافة إلى المدرسة، الانتماء الحالي أو المؤجل إلى نادٍ ثقافي، أو لمجموعة دينية أو لحزب سياسي، وتأثير ذلك على صياغة شعور الانتماء الجماعي.
وبناء عليه، لاحظ الباحثون، ونسبة للمعدلات المنخفضة لتأثير الانتماء إلى نادٍ أو مجموعة دينية أو حزب سياسي، أن المدرسة تتخطّى بفارق شاسع باقي المتحركات المستقلة التي شملتها الدراسة في التأثير على صياغة الانتماء الجماعي لدى التلامذة.
واستشهد الدكتور خليفة بدراسات أخرى لباحثين وأساتذة جامعيين شملت شرائح اجتماعية أوسع، ليشير إلى تشابه مع نتائج هذه الدراسة بشأن ضعف الانتماء للهوية الوطنية في لبنان، ويقول إن «الدراسة الأخيرة تبرز بشكل خاص إمكانية ربط الانتماءات ما دون الوطنية بفئة المدارس، فضلاً عن التشابه الكبير بين المدارس التي تنتمي إلى الفئة ذاتها». فقد وضعت المدارس الرسمية والعلمانية في فئة واحدة، فيما جمعت المدارس الدينية من إسلامية ومسيحية ضمن فئة واحدة لكونها أدّت إلى النتائج عينها.
وبالانتقال إلى عناصر الثقافة المواطنية، فقد أتت النتائج لتعبر عن تكوين غير مكتمل لها. وسجلت الدراسة تفاوتاً كبيراً بين ما يعتبره التلاميذ في النظرة مثلاً عيداً وطنياً أم لا. «فالمقاومة والتحرير عيد وطني هناك، أما هنا فدونه بيدٌ دونها بيد، والفصح عيد وطني هناك والأضحى أضحى عيداً وطنياً هنا...»، على ما أشار خليفة.
وفي مقابل تعزيزها لروح الانتماء إلى الطائفة، أظهرت المدارس فشلاً في تعزيز الممارسة الديموقراطية، حيث ظهرت «نواقص مزمنة في مفهوم التمثيل وآليات الممارسة الديموقراطية في المدرسة، وفي التزام التلامذة حاضراً أو مستقبلاً، بالجمعيات أو الأحزاب أو النوادي».
وعليه، أشار خليفة إلى تشتت شعور الانتماء الجماعي لدى المواطنين، «حتى نكاد نتحدث عن غابة من الانتماءات الطائفية في ظل غياب المواطنية ومنظومة مكوناتها على الصعيدين الاجتماعي والسياسي».
ما بدأه الدكتور خليفة، أكملته رئيسة «جامعة اللاعنف في لبنان والعالم العربي» الدكتورة اوغاريت يونان. ومن موقعها كباحثة تربوية حول الفكر التربوي وتحويله إلى مناهج علمية، ومناضلة مدنية وعلمانية، على مدى حوالى ثلاثين عاماً، رسمت يونان صورة لتأثير المدرسة على شعور الإنسان بالانتماء وشخصيته بما هي مكملة لما يحصل في المجتمع. ومنحت الدكتورة يونان للمدرسة الدور الرئيس لكونها «منظمة وإلزامية وواجبة وفيها تصحيح وشهادات وتقييم للإنسان على مدى خمسة عشر عاماً، تبدأ من سن الصغر (ثلاث سنوات) تعلّم الإنسان أهم فعل سياسي يحصل معه، وتعليمه المفاهيم والقيم والمبادئ التي على أساسها يمارس حياته».
ومع لحظ الدور الكبير للتربية في تكوين شعور الانتماء عند الإنسان، أشارت يونان إلى ان التربية في لبنان أعطيت للطوائف قبل نشوء الوطن وتعززت بالدستور مع نشوئه، مع المادتين التاسعة والعاشرة من الدستور. ففيما تمنح المادة العاشرة الحق للطوائف بإنشاء مدارسها، تعطيهم التاسعة مطلق المسؤولية عن أحوالهم الشخصية، كما أن «حقوقهم مقدسة لا تمسّ، لا بل أعطيوا، أي الطوائف، ووفقاً للمادة 19 من الدستور، حق المراجعة أمام المجلس الدستوري وحق الطعن وكأنهم مؤسسات دستورية، وهم ليسوا كذلك».
وعرضت يونان للجهود التي بذلت لإدخال المفاهيم العلمانية والمدنية في المناهج الجديدة، رغم وجود لجنة طائفية عليا تراقب وتعترض مع ما يتباين مع مفاهيمها، لتشير إلى فقدان أي فلسفة تربوية، او أخرى خاصة بتكوين هوية لبنان او اسسه، و»كأن لبنان ما زال فكرة فيها ملامح دولة مدنية، ولكنه يخضع لفلسفة التركيبة الطائفية».
وعادت الدكتورة يونان إلى العام 2000، عندما عادت الدولة وكرّست إلزامية التعليم الديني في المدارس الرسمية للمرة الأولى منذ نشوء البلاد - الوطن. يومها، علا صوت بعض الطوائف الدينية بالقول إن «ثلاثة ارباع اولادنا يتعلمون في المدارس الرسمية وتريدون حرماننا من تعليمهم دينهم؟». ويومها، «تركت الحرية للتعليم الخاص في تدريس الدين ام لا، وطبعاً ستختار المدارس الدينية تعليم تلامذتها الدين».
واعتبرت الدكتورة يونان ان «تربية النفس البشرية على الحقد ورفض الآخر وتشويه نفسيته وشخصيته، هو اخطر أنواع الجرائم، فالجريمة ليست في القتل وإسالة الدماء فقط». وطبعاً، «هذا لا ينال من التعليم الديني كتعليم ديني مجرد، وإنما مما تزرعه المدارس التابعة للطوائف الدينية في نفوس تلامذتها، ومنها تقوية شعور الانتماء للطائفة على الوطن، وغيرها من المكونات الشخصية».
ولكن، وسط المؤشرات المذكورة، والمثبتة بالوقائع والأرقام، ما هو الحل؟
يرفع الدكتور خليفة الصوت ليقول إن «المطلوب خطة طوارئ تربوية فوراً ومن دون أي تأخير»، وإن «التعليم الرسمي هو خشبة الخلاص»، فيما تشير يونان إلى أن كتاب التربية المدنية الموحّد موجود لكل الصفوف، وأن البديل عن كتاب التاريخ غير الموحّد الذي تعتمده بعض المدارس موجود أيضاً، وأن تعزيز التعليم الرسمي غير المنحاز لأي طائفة من الطوائف واجب أيضاً، و»لكن ليست هناك إرادة سياسية». وتشير يونان إلى انه من الممكن ترك «الحق للطوائف بإنشاء مدارسها الخاصة، ولكن تحت سقف القانون وليس لتعليم الطائفية، مع أنه لا لزوم للمادة العاشرة من الدستور».
ويلتقي خليفة مع يونان لجهة المطالبة بـ»إلغاء التشريعات الطائفية من الدستور، وتحديداً في التربية»، وعلى رأسها «المادة 10 من الدستور التي تعطي للطوائف ما يجب أن يكون للدولة». كما طالب خليفة بالتوقف عن «مصادرة الدور الوطني لوزارة التربية والمؤسسات التابعة لها، وإنهاء الزبائنية والمحسوبية والانتفاع الشخصي أو الحزبي أو المناطقي أو الطائفي فيها». كما العمل على كل ما يرتبط «بالتخطيط والتنفيذ من حيث فعالية السلم التعليمي والمواد التعليمية ومقدار انسجامها مع واقع وحاجات وتطور المجتمع اللبناني، وإيلاء الأهمية القصوى لمادة التربية المدنية والتنشئة الوطنية في المدارس».
واختتمت الندوة بمحاضرة وزير الاتصالات شربل نحاس عن «الطائفية والفساد»، ومع تقديمه مفهوماً جديداً للطائفية، غير معتمد عند الشريحة الأوسع من الشعب اللبناني، وتحديداً لجهة فصلها عن الدين والمذهبية، وإعادة ربطها بالتجمّعات التي تربطها مصالح مشتركة او قربى عائلية او قبلية او مناطقية او دينية، كغيرها من أواصر الربط. فالطائفة «هي متحد اجتماعي قائم بالأساس على نسب او عرق ويترجم بالعصبية وما يستتبع ذلك من مصالح مادية. بينما المذهبية الخارجة من رحم الأديان هي جزء من الطائفية ولا تختصرها».
وفرّق نحاس بين «السرقة الموصوفة، أي تلك التي يرتكبها الإنسان عبر سرقة الأموال مباشرة من جيب احدهم او من صندوق مؤسسة، وهي غالباً ما تحصل في الخفاء»، وبين «واحد معه مصاري وعم يعمل خير قبل الانتخابات، وهو ما يحصل على عينك يا تاجر»، ليقول إن «الفساد قائم على علاقات مزعجة ما بين المال والسلطة واستخدام السلطة لكسب المال، وهو ما يُكسب البعد السياسي لكلمة فساد».
واستعاد نحاس تركيبة السلطنة العثمانية «حيث تكثر الطوائف وتتكاثر ضمن انظمة الحكم ذات الطابع الأمبراطوري»، ليتتبع «تغيرات مرتكزات الوضعيات السابقة في ظل تغير الطرق التجارية ومواقع الولايات»، وصولاً إلى بروز نخب قيادية جديدة، وتغير ادوات الضبط بين المجموعات نتيجة للتغيرات الاقتصادية، وعلاقاتها بمصالح الطوائف وتشكلها.
يذكر أن الجلسة الأولى عقدت برئاسة نائل قائد بيه، وترأس الثانية الزميل سركيس ابو زيد، وترأس الثالثة نبيل كيروز، فيما قدم للندوة، باسم الهيئة، النائب السابق والكاتب والشاعر غسان مطر.(السبت 30 أيار 2011)