النظر إلى الاستثمار في التعليم العالي لجهة عائداته على المجتمع والإنسان لا لجهة تكاليفه المالية فحسب، هو ما أوصى به المؤتمر التربوي الثاني للمركز الإسلامي للتوجيه والتعليم العالي. المؤتمرون ناشدوا الدولة تخصيص ميزانية لدعم الأبحاث ورسم مخطط توجيهي عام للجامعات يضبط توسّع اختصاصاتها على إيقاع الحاجات الاجتماعية، فضلاً عن الإسراع في إصدار قانون تنظيم التعليم العالي في لبنان
فاتن الحاج
لا تبدو الموازنة بين تكاليف التعليم وعوائده متحققة في لبنان. «هنا لا مكان لفرضية كلما ازداد الإنفاق على التعليم ارتفعت كفاءة النظام التعليمي وازداد معدل الإنتاجية، بل العكس هو ما يحصل»، كما يقول د. عبد الحليم فضل الله، رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، خلال مشاركته في مؤتمر الاستثمار في التعليم العالي الذي نظّمه أمس المركز الإسلامي للتوجيه والتعليم العالي. ويرى فضل الله أنّ الإنفاق على التعليم في لبنان يسجّل أعلى النسب في العالم، من دون أن ينعكس بالضرورة على المساواة في المداخيل. لا بل إنّ العلاقة غير واضحة بين هذه المداخيل وفرص التعليم.
ومن المفارقات التي يتوقف عندها فضل الله عدم التناسب بين كلفة التعليم العالي في الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة. فالفجوة تزداد مع مرور الوقت، إذ كان متوسط كلفة التعليم في الجامعات الخاصة في أواسط التسعينيات يوازي ما بين ضعفين إلى خمسة أضعاف كلفة التعليم في الجامعة اللبنانية. هذه الفجوة باتت بين عامي 2007 و2010 تتراوح بين ضعفين و12 ضعفاً، وهو ما سمّاه فضل الله تضخّماً في كلفة التعليم. المفارقة الأخرى هي التفاوت في أقساط الجامعات الخاصة نفسها، علماً بأنّ الارتباط بين متوسط القسط الجامعي وفعالية التعليم في هذه الجامعة غير قوي، على حدّ تعبير فضل الله. يؤكد الرجل أنّ الجامعات تتحكّم في السوق الخاص بها الذي يتأثر بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والاحتكارية. ويشير إلى أنّ معظم موازنات هذه الجامعات، ما عدا بعض الاستثناءات، يعتمد على الأقساط، وجزءاً بسيطاً جداً يخصّص للبحث والتطوير، في وقت تطالب فيه هذه المؤسسات بدور يتجاوز تقديم فرصة التعليم فحسب إلى رفع المستوى العام للاقتصاد وانعكاس ذلك على الإنتاجية العامة. ويقرّ الباحث الاقتصادي بأنّه ليس لدينا تعريف واضح للتعليم «هل هو سلعة أم خدمة عامة ينبغي إخضاعها للمصلحة العامة؟». ما يتناوله فضل الله بشأن مسؤولية الدولة في رعاية التعليم وتحوّل هذا الأخير إلى عنصر طرد للطاقات بدلاً من أن يكون عنصر جذب لها، يقاربه أيضاً وزير الاتصالات د. شربل نحاس على نحو موسّع في مداخلته بعنوان «موقع التعليم العالي في إطار الاستراتيجية التنموية الشاملة». يميّز نحاس بين التعليم العام والتعليم العالي، «الأول من مسؤولية الدولة المطالبة بتوفير التعليم الإلزامي، أما الثاني فلا يدخل ضمن الالتزام الاجتماعي بمصلحة عامة، لسبب بسيط أنّ التعليم الجامعي غير محدد بمعرفة، بل هو عبارة عن اكتساب مهارات متخصصة، يؤدي مباشرة إلى تحقيق دخل فردي، إذ إنّ المساحة التي تعود إلى المنفعة العامة وتبرر استخدام المال العام ليست واضحة، وإن كان الأمر قد يكون مفهوماً في بعض المجالات المحددة بأبحاث علمية مجردة أو تطبيقية في القطاع الصحي مثلاً». هذا الفصل بين التعليم العام والتعليم الجامعي له مدلولات اجتماعية واقتصادية وسياسية، كما يقول الوزير.
الاعتبار الثاني الذي يتحدث عنه نحاس هو أنّ «التعليم العالي ليس مجرد اكتساب مهارات قد يكتسبها الفرد خارج هذا القطاع». هناك، برأيه، دلائل واضحة بشأن الغاية الأهم، وهي شراء الموقع الاجتماعي الذي يعززه هذا التمسك المستميت بتحصيل الشهادة من جامعات «عريقة» وكل الشكليات التي ترافقها، من ارتداء ثوب التخرج ووضعها على الحائط، فيما «العلاقة بين الشهادة وشو بيعرفوا الشباب مش هالقد واضحة». أما تبرير ازدياد الإقبال على التعليم فيعود، بحسب الوزير، إلى أنّ هذا التعليم يتجه إلى تصدير الطاقات، عندها تستقيم الحسابات الاقتصادية. «ما يزيد على 50% من متخرّجي الجامعات في لبنان يغادرون بعد 5 سنوات من تخرّجهم للعمل في الخارج».
ويقول إنّ التعليم يمثل 3% من الناتج المحلي، بينما ينفق اللبنانيون من دخل أسرهم على التعليم ما يفوق 9%، ما يعني أنّ نسبة الإنفاق تبلغ 12%، «وهي نسبة ما في متلها بالعالم». ويخلص نحاس إلى أنّ نظام التعليم ليس شاذاً عن النظام الاقتصادي والاجتماعي، «وبصراحة، فالأغلبية يعجبها هذا النظام، ولا تريد أن تغيّره، لأنّها ببساطة غير مقتنعة بإرساء البديل».
في المقابل، تصرف 0.2% من ميزانية الدولة فقط على البحث العلمي، كما تقول الأستاذة في الجامعة الأميركية د. فايا حميدان، مؤكدة أهمية إيجاد إطار مؤسسي واحد يقوم بمهمة تنظيم علاقات مؤسسات التعليم العالي في لبنان مع الخارج، والعمل على تنسيق الجهود وتكاملها على هذا الصعيد، ولا سيما في ما يتعلق بالحصول على المساعدات الفنية وتمويل الدراسات والبحوث. أما د. علي الموسوي، الأستاذ في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، فيقول إننا «مستهلكون للمعرفة، وأبحاثنا تموّلها منظمات دولية بناءً على أجندة أولويات لديها»، مؤكداً أنّ سوق العمل ليس حيادياً، بل هو اصطفائي وانتقائي.
وكان المؤتمر قد افتتح بكلمة لمدير عام المركز علي زلزلة، فأشار إلى أنّ اختيار العنوان يعود إلى «وعي أهمية دور الرأسمال البشري، وأن التعليم ضرورة للتنمية المستدامة ولتحسين مستوى الحياة للأفراد، وأنّ التلاقي بين مؤسسات التعليم العالي والقوى الاقتصادية يحقق النمو والتطور الدائم».
أما النائب علي حسن خليل، فمثّل راعي المؤتمر رئيس مجلس النواب نبيه بري قائلاً: «لقد وقع لبنان تحت سيف سياسات غاب عنها التخطيط وممارسات حكومية لم تعط للتعليم العالي بعده الحقيقي، بل شجّعت على تخريج عاطلين من العمل لتحصر فرص الاختصاص في النخبة التي تخدم مصالحها».)الأخبار 1 حزيران2011)