إذا كانت نتائج الدراسة التي اعتمدها برنامج «MILES»، (يعدّه البنك الدولي
بالشراكة مع وزارة العمل)، تظهر وجود تشوهات اقتصادية وقصور حاد ناجم عن نمط اعتُمد طيلة العقود الماضية، وأدى إلى اختلال سوق العمل، فإن الخروج من هذا النمط الموصوف بالنفق المظلم، أو تغييره، يتطلب نقاشاً واسعاً في مجموعة خيارات متاحة، وفي كلفتها على الاقتصاد وعلى المالية العامة
محمد وهبة
لا شكّ أن أسباب التشوّهات الحالية في سوق العمل في لبنان لم تأت من فراغ، بل هي نتاج نمط اقتصادي اعتُمد طيلة العقود الماضية. فالمسح الذي أجراه فريق عمل برنامج «MILES» عن هذه السوق يظهر أن الجامعيين هم الأكثر بطالة والأكثر هجرة خلافاً لكل المقولات السابقة، وأن غالبية القوى العاملة تعمل في قطاعات ذات قيمة اقتصادية متدنية (التخزين، صيانة الآليات...) بسبب عدم وجود فرص عمل في قطاعات ذات قيمة مضافة (المعلوماتية، التأمين، نشاطات علمية...). هذا الاختلال نجم عن قصور في تحفيز الاستثمارات، وأدّى إلى تركّز قطاعي لا يولّد فرص عمل للبنانيين، وإلى اعتمادهم على موارد خارجية يمثّل المغتربون أبرز مصادرها، فيما كانت الدولة تستدين وتنفق...
خلاصة الأمر أن تغيير هذا النمط من أجل توليد فرص عمل للبنانيين وزيادة الإنتاجية يحتاج إلى اعتماد أحد الخيارات الاستراتيجية التالية الواردة على شكل أسئلة: اقتصاد لبنان يجب أن يكون منسجماً مع نفسه أم مع محيطه؟ ما هو الدور الأساسي للدولة؟ ما هي الأولويات المالية؟ كيف يمكن إعادة توزيع الثروة في لبنان؟
تكسير المعادلات السابقة
1 ــ يشير الخيار الأول إلى أنه يجب المفاضلة بين استمرار لبنان في تصنيع اليد العاملة لبلاد النفط وتكييف نفسه في محيط صحراوي معتمداً على تخصصه في السياحة، في مقابل التكيف مع قدرات المجتمع وتطلعاته. الفرق بين الأمرين أن معادلة تصنيع اليد العاملة وتصديرها تبقي لبنان مكشوفاً على التأثيرات الخارجية، فيما انسجامه مع نفسه يحصّنه تجاه هذه التأثيرات.
2 ــ يطرح الخيار الثاني السؤال الآتي: هل ستبقى العناصر الأساسية في الاقتصاد الوطني مرتهنة للسلوك التجاري بعيداً من تدخل الدولة، فتبقى المحفّزات الاقتصادية مبنية على اعتبارات السوق من الأسعار والمخاطر والكلفة والعوائد... أم يجب إعادة النظر في محفّزات الاقتصاد لتصبح إرادية لا عفوية وتشجيع إنتاج القطاع الخاص (مثلاً هل يجب معاملة التصنيع والإنتاج مثل الإعفاءات الأخرى؟)، وبالتالي يجب تعديل السياسات الضريبية بما يتلاءم مع تعزيز الاستثمار الخاص المنتج.
3 ــ الخيار الثالث يقوم على علاقة مباشرة بالأوضاع المالية التي تؤثّر مباشرة في الاقتصاد، ونظراً إلى تداعيات المرحلة الماضية، ومن أبرزها الدين العام. فهل الدين العام أولوية تسبق كل ما عداها، أم يجب التعايش معه وعدم إهماله فيما تعالج تداعيات المرحلة السابقة عبر خفض درجة المخاطر السياسية والاجتماعية، واستحداث سلّة من السياسات التي تعالج البطالة والاستشفاء والتقاعد.
4 ــ يتعلق الخيار الاستراتيجي الرابع بكيفية إعادة توزيع الثروة. فبسبب المزاعم عن سهولة التحصيل الضريبي كان الاقتطاع الضريبي ذا منحى تراجعي إجمالاً، وكانت قنوات إعادة التوزيع مستورة بآليات دعم مرتبطة مباشرة بالوظائف العامة للدولة، ألا يجب أن تصبح هذه الآليات معلنة وظاهرة بعيداً عن هذه الوظائف.
التغطية الصحية الشاملة
في ضوء هذه الخيارات تصبح التغطية الصحية الشاملة المموّلة من الضريبة أحد الخيارات الأساسية التي تصفها منسقة مشاريع التنمية الاجتماعية لدى البنك الدولي في لبنان والأردن وسوريا، حنين السيّد، بأنها «إصلاح ضروري»، مشيرة إلى أن المقاربة المذكورة في نتائج المسح، التي قدّم جزءاً أساسياً منها وزير العمل شربل نحاس، هي «جريئة وتذهب في إطار مختلف عما هو موجود حالياً، ولا سيما أن النظام الصحي بلغ الحدّ الأقصى الذي يمكنه بلوغه في حالته الحالية».
هكذا تستنتج الدراسة 3 سيناريوهات في إطار تنفيذ التغطية الصحية الشاملة:
أولاً، أن إلغاء اشتراكات الضمان وتمويل التغطية الصحية من الضريبة يخفّف الكلفة على أرباب العمل، ويزيد العبء الضريبي بنسبة 0.71%، ويخفض معدلات الهجرة بنسبة 5.5%، فيما تتراجع معدلات البطالة بنسبة 14.3%.
ثانياً، إذا قرر لبنان الاستمرار في سياسة اعتبار الدين العام أولوية الأولويات لكنه أقرّ التغطية الصحية الشاملة ضمن حزمة اجتماعية كلفتها السنوية 250 مليون دولار، فالنمو ينخفض بمعدل 0.1%، ويزيد عجز المالية العامة بنسبة 3.7%، وتتراجع الهجرة بمعدل 5.4% وتتراجع معدلات البطالة بنحو 14.1%، ويرتفع الطلب على العمالة النظامية (المصرّح عنها) بنسبة 2.4%، وتتراجع الاستثمارات بنسبة 1.3%.
وهناك خيار ثالث يتعلق باستحداث ضريبة جديدة لتمويل التغطية الشاملة، حيث سيكون التأثير في الاستثمارات والنمو حيادياً، فيزيد العبء الضريبي بنسبة 1.2%، وتنخفض معدلات الهجرة بنسبة 5.5%، وتتراجع البطالة بنسبة 14.3%.
إضافةً إلى ذلك، فالدراسة تتطرق إلى 4 سيناريوهات تحاكي إجراء تغييرات بنيوية في النظام الاقتصادي، تؤمن التغطية الصحية الشاملة، وتغيّر التركيبة بهدف توليد فرص العمل؛ أولها يشير إلى أنه إذا جرت زيادة الاستثمارات في البنى التحتية (اتصالات، كهرباء، نقل) يزيد النمو 0.4%، والعبء الضريبي 2.4% وتنخفض الهجرة 2.1% وتزيد الاستثمارات 7.6% وتنخفض معدلات البطالة 2.5%. ثاني هذه السيناريوهات يتحدث عن زيادة الإنتاجية، فلا يزيد العبء الضريبي وتنخفض الهجرة 3.8% وتزيد الاستثمارات 3.6% وتنخفض البطالة 5.6%. أما الثالث، فيشمل الأول والثاني، ونتيجته زيادة العبء الضريبي 2.4% وخفض الهجرة 5.6% وزيادة الاستثمارات 11% وخفض البطالة 7.7%.
أما الرابع، فهو عبارة عن رزمة إصلاحات تخلط بين استحداث ضريبة جديدة لتمويل التغطية الصحّية الشاملة، والخيار الثالث المركّب، فتؤدي إلى زيادة معدلات النمو 2.4%، وزيادة العبء الضريبي 3.5%، وخفض معدلات الهجرة 10.8%، وزيادة الاستثمارات11% وزيادة الطلب على العمالة في السوق النظامية 3.2%، وخفض البطالة بنسبة 20.7%.
%29 مضمونون
هو معدّل التغطية لدى صندوق الضمان الاجتماعي، بحسب دراسة «MILES»، أي ما يعادل ثلث الشعب اللبناني، فيما الباقون يحصلون على التغطية الصحية من صناديق أخرى أكبرها وزارة الصحة العامة
إزالة معوّقات التشغيل
تتوقّع منسّقة التنمية الاجتماعية لدى البنك الدولي في لبنان والأردن وسوريا، حنين السيّد، أن تتضمن موازنة عام 2012 الإصلاحات التي يقترحها برنامج «MILES»، لا سيما لجهة إصلاح نظام الضمان الاجتماعي الذي يعدّ، بحسب نتائج دراسة البرنامج، السبب الأول لعدم توظيف العمال، في ظل عدم وجود نظام تقاعد، ولا نظام ضدّ البطالة... لذلك يجب تحقيق التغطية الشاملة، ووضع نظام تقاعدي تكون فيه التقديمات مربوطة مباشرة بالاشتراكات ومعدلات الاشتراك موزّعة على شطور، واستحداث نظام ضد البطالة للتخفيف من انكشاف القوى العاملة على مخاطر السوق .