ضمان صحّي لكل اللبنانيين

ينتظر اللبنانيون منذ عقود التغطية الصحية الأساسية الشاملة التي وعدهم بها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في قانون إنشائه، ولم تنفّذ إلى اليوم. إلا أنها أصبحت فرصة سانحة اليوم، بعدما طلب وزير العمل شربل نحاس من وزارة المال حجز اعتماد بقيمة 1580 مليار ليرة لهذا المشروع الذي ينعكس إيجاباً على الأوضاع الاجتماعية للأسر، وعلى كلفة الأجور والاقتصاد عموماً
محمد وهبة

يعدّ مشروع التغطية الصحيّة الأساسيّة الشاملة أم المعارك التي يستعد لها وزير العمل شربل نحاس. بإقراره سيحصل كل لبناني على الخدمات الصحية الأساسية من استشفاء وطبابة ودواء وفحوص... المشروع الحيوي، الذي سبق للكتل النيابية كلّها أن التزمت بتطبيقه أمام الاتحاد الأوروربي عام 2008، سيكون له انعكاسات إيجابية مباشرة على الأوضاع الاجتماعية ورفاهية الأسر اللبنانية، ولا سيما المتوسطة وما دون، وعلى الاقتصاد عموماً. تصل كلفته الإجمالية المقدّرة إلى 1580 مليار ليرة، أو 400 ألف ليرة عن كل لبناني مقيم. أما التمويل، فهو متوافر جزئياً مما تدفعه الدولة حالياً للصناديق الضامنة المختلفة بقيمة 730 مليار ليرة، فيما الباقي، أي 850 مليار ليرة، يفترض أن يُموّل من ضريبة الربح العقاري التي ستنتج عائدات بقيمة 1200 مليار ليرة بالحدّ الأدنى. إلا أنّ لكل مفصل في هذا المشروع معركة، انطلاقاً من التمويل الجديد، فالهيكلية، ثم مستوى الاستفادة، وحجم تدخّل الدولة، وضبط السوق... فهل سيضع اللبنانيون عصبياتهم جانباً لينخرطوا في المعارك المنتظرة ليصبح هذا المشروع واقعاً حقيقياً؟

أثر اجتماعي

يؤكد وزير العمل شربل نحاس أن مشروع التغطية الصحية الأساسية الشاملة صار على طريق التنفيذ، بعدما طلب من وزارة المال رسمياً حجز مبلغ 1580 مليار ليرة في الموازنة العامة، ورصد إيرادات الضرائب لتمويل كلفة مشروع التغطية الصحية الأساسية الشاملة. ويؤكد أن «تمويل المشروع سيكون عبر ضريبة الربح العقاري، التي تؤمن واردات تصل إلى 1.5 ضعف، أو ضعفي المبلغ المطلوب تغطيته، الذي يصل إلى 800 مليار ليرة»، علماً بأن «هذه الآلية التمويلية لاقت قبولاً من وزارة المال، لكن ننتظر ترجمة الأمر فعلياً في مشروع موازنة 2012».
كلام الوزير نحّاس ينطوي على تفاؤل كبير، إلا أن ذلك لا يعني أبداً أن المشروع سيسلك طريقه الى التنفيذ من دون ضغوط هائلة، فموازين القوى داخل مجلس الوزراء ومجلس النواب لا تدفع الى الاطمئنان، ما يرتّب مسؤولية كبيرة على القوى السياسية والنقابية لكي تتحرّك سريعاً من أجل احتضانه وفرض تحقيقه، بل والإصرار على أن تمويله يجب أن يأتي من ضريبة على الريع تسهم في اعادة توزيع الثروة، وتحرر العمل من الأعباء الملقاة عليه.
مبررات المشروع ستكون على طاولة مجلس الوزراء خلال نقاش مشروع موازنة 2012، وهي مبررات اجتماعية ومبادئ إنسانية، بحسب نحّاس، «فلم يعد مقبولاً في لبنان حيث الناتج المحلي يزداد وينمو سنوياً، أن يموت الناس على الطرقات، أو أن يكونوا عرضة للطرد من أمام أبواب المستشفيات»، ويضيف إنه «ليس طبيعياً أن يضطر اللبنانيون إلى التسوّل والتسكع على الأبواب والمواقع وبيع مواقفها من أجل الحصول على حقها بالتغطية الصحية».
لإرساء التطبيق مبررات إضافية يذكرها برنامج «MILES»، الذي تعدّه وزارة العمل بالشراكة مع البنك الدولي؛ إن إقرار هذا المشروع يمنع تحويل الخدمات الصحيّة إلى مصدر للزبائنية السياسية، وهو يخفّف مما يدفعه اللبنانيون من جيوبهم الخاصة على الفاتورة الصحية التي كانت تؤثّر سلباً في الأسر المتوسطة الدخل وما دون، وصولاً إلى الذين هم تحت خط الفقر. فالمسح الذي أُجري في إطار هذا البرنامج يؤكّد أن 53% من المقيمين في لبنان ليس لديهم أي تغطية صحية، لا من القطاع العام ولا من القطاع الخاص، أما إنفاق اللبنانيّون من جيوبهم الخاصة على الصحة فيصل إلى 20% من الفاتورة الاستشفائية.

إلغاء اشتراكات الضمان

هناك وقع إيجابي إضافي للمشروع على سوق العمل. فهو يؤدي إلى إلغاء الاشتراكات في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، حيث يسدّد أصحاب العمل كلفة اشتراكات الضمان عن أجرائهم التي تصل إلى 322 مليار ليرة من أصل 414 ملياراً متوجّبة لصندوق ضمان المرض والأمومة. فالمعروف أن العامل يدفع 2% من أجره ويدفع أصحاب العمل 7%.
وتظهر نتائج المسح في إطار «MILES»، الذي تضمن مجموعة من الأسئلة لكل من أرباب العمل والعمال من أجل إظهار العلاقة الإنتاجية بينهما وتحديد مستوياتها وعوائقها، وجود عوائق متصلة مباشرة أو مواربة بأكلاف الأجور والصحة في لبنان؛ نصف القوى العاملة في لبنان تقع ضمن خطين: عاطلة من العمل، أو تعمل في السوق الموازية (السوق غير النظامية، حيث لا يصرّح عنها للضمان الاجتماعي)، لكن الأكيد أن معدّل البطالة العام (مع أرجحية بطالة الإناث على الرجال) يصل إلى 11%، فيما يعمل في السوق النظاميّة كأجراء نحو 34% من القوى العاملة، ويعمل في السوق الموازية ما نسبته 35% (بينهم 16% عمالة غير ماهرة تعمل لحسابها الخاص)، وهناك 20% يعملون لحسابهم الخاص في أعمال عالية المهارة. وكل هؤلاء لا تشملهم الضمانات الصحية الدائمة على أشكالها كما لا يشملهم أي تصحيح يطرأ على الأجور.
في هذا الإطار يستنتج المسح معطيات جديدة؛ تمثّل اشتراكات الضمان الاجتماعي السبب الأول في عدم استخدام المزيد من اليد العاملة، أما إلغاء هذه الاشتراكات، فيزيد العمل في القطاع النظامي، ولا سيما أن 25% من القوى العاملة ترى أن الأمان الاجتماعي هو سبب عملها في القطاع النظامي، فيما يرى 52% أن الاستدامة الوظيفية هي السبب في العمل في السوق النظامية.
لا ينحصر الأمر في الأثر المباشر، إذ لا يمكن إغفال المعادلة القائمة على أن تحسين التغطية الصحية للعامل يؤدي إلى تحسين إنتاجيته.
لهذه الأسباب قد تسهّل التغطية الصحية الشاملة تصحيح الأجور. فالتغطية المقصودة مموّلة من الخزينة العامة، أي إنها تحرّر الأجور من كلفة كبيرة يسدّدها أصحاب العمل كاشتراكات عن عمالهم للضمان. لو أزيحت هذه الكلفة عن أكتاف أصحاب العمل، فستتراجع مبرراتهم للاعتراض على زيادة الأجور!

اصلاح بنيوي

هكذا يمثّل إقرار التغطية الصحية الشاملة فرصة في رأي الخبير الاقتصادي كمال حمدان، لربط موضوع الأجور بمجموعة من العناصر الأخرى. «هذا أمر منطقي في ضوء ما كان يحصل على هذا الصعيد خلال السنوات الماضية، وفي ظل التشوّهات الاقتصادية الحاصلة» يقول حمدان، فالمطلوب «تعميق دراسة موضوع تصحيح الأجور ليكون متصلاً أكثر بإصلاحات بنيوية على صعيد الاقتصاد، من بينها تحرير الأجر من أكلاف الصحة». ففي السابق، كانت مسألة زيادة الأجور تنتهي بتسوية لتحقيق إرضاء شعبوي يجري على حساب الإصلاح البنيوي في مختلف القطاعات وأكلافها على العمل، مثل الصحة والنقل العام والتعليم الرسمي... لذلك يدور حالياً النقاش بشأن مجموعة خيارات يجب اعتمادها في إطار تصحيح الأجور من أجل تعزيز رفاه الأسر المتوسطة وما دون، ومن أبرزها التغطية الصحية الشاملة. فمن منافع إقرار هذه التغطية أنها «تجبر الدولة على فتح ملفات إصلاحية في مختلف القطاعات». أما إذا تركنا الأمور تتراكم كما هي عليه الحال خلال السنوات الأخيرة، «فإن الجرح يتعمّق».
في جانب آخر، فإن هذه التغطية المموّلة من الضريبة هي مطلب أساسي للاتحاد العمالي العام، في إطار معركته الهادفة إلى تصحيح الأجور. فبحسب رئيس الاتحاد غسان غصن، رفع اشتراكات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عن عاتق أصحاب العمل وتحميلها للنظام العام في لبنان في إطار دولة الرعاية الاجتماعية، يفتح باباً أو ثغرة لسحب ذريعة أصحاب العمل التي يستندون إليها لرفض تصحيح الأجور.

أجر اجتماعي

من الواضح أن الرابط قوي بين الضمان الاجتماعي وسوق العمل، ولو أن هناك عناصر أخرى تبدو بالأهمية نفسها وبتأثير مماثل في هذه السوق مثل درجة التعلّم والاستثمارات والتركّز القطاعي... إلا أن جاذبية إصلاح التغطية الصحية في لبنان تمثّل أهمية يمكن وصفها بأنها استثنائية في هذا المجال نظراً إلى منافعها الواسعة على سوق العمل، وهي تتحوّل بحسب الخبير الاقتصادي غسان ديبة، إلى «أجر اجتماعي» تدفعه الدولة لكل لبناني. أما الوضع الجديد، فسيخفف من أعباء الفاتورة الصحية على العمال والموظفين والمتقاعدين (بعد بلوغ سن التقاعد يفقد المضمون ضمانه، وهذا أسوء ما في النموذج الحالي).
«على أي حال، لا يمكن اعتبار شمولية التغطية الصحية، فيما لو أقرت، أنها تصحيح للأجور» يقول ديبة، لكنها عنصر أساسي لتخفيف الأعباء عن الأجر، وبات بإمكان العامل تخصيص ما كان ينفقه في هذا المجال لأمور أخرى.
يذكر برنامج «MILES» أن إرساء التغطية الصحيّة الشاملة لن يزيد كلفة الفاتورة الصحية، كما يُتوقع. فالنظام الصحي الحالي يشجّع العرض ويزيد الطلب على الخدمات الصحية، وبالتالي فإن تغيير بنية النظام لن يبقي العرض والطلب في السلّة السابقة، لذلك يتوقع أن تنخفض الأكلاف إذا جرى الانتقال من نظرة خاصة إلى تمويل عام.
كل الفاتورة الصحية التي تدفع الدولة جزءاً اساسياً منها ليست فاعلة لكون التغطية الصحية تختلف بين صندوق وآخر، وهي تغطية مشتتة التمويل؛ هناك جزء أساسي منها ملقى على عاتق أصحاب العمل بصورة رئيسية، وعلى عاتق العمال جزئياً، يضاف إليه جزء ثانٍ مموّل من العمال والدولة، وجزء ثالث مموّل من الدولة مباشرة، وجزء رابع مموّل من أجور العمال مباشرة، وهذا أيضا يترك آثاراً سلبية نتيجة انعدام المساواة بين المواطنين.
ويشير تحليل التقديرات التي أجراها «MILES» إلى أن الكلفة الإجمالية المتوقعة لتمويل النظام الجديد تصل إلى 1580 مليار ليرة، علماً بأن الدولة تدفع حالياً 730 مليار ليرة على الخدمات الصحية كالآتي: 315 مليار ليرة بواسطة وزارة الصحة العامة، 135 مليار ليرة حصتها في تمويل تقديمات صندوق الضمان الاجتماعي (25% من النفقات الصحية)، 74 مليار ليرة لتعاونية موظفي الدولة من تغطية 85% من الفاتورة، 11 مليار ليرة لصناديق التعاضد، 40 مليار ليرة لتغطية العجز في الضمان الاختياري، 155 مليار ليرة لتمويل صناديق الأسلاك الأمنية والعسكرية.

1200 مليار ليرة

هي قيمة النفقات الصحية الإجمالية التي رصدت في مشروع موازنة 2011 لمختلف الصناديق الضامنة (ضمان، وزارة الصحة، الصناديق العسكرية والتعاضدية، عجز الضمان الاختياري)... أي أقل من كلفة التغطية الصحية الشاملة بـ380 مليار ليرة

ضمان الشيخوخة... آن الأوان

1640 داعماً لصفحة «ضمان الشيخوخة في لبنان ــ آن الأوان» على الفايسبوك خلال أسابيع معدودة، فهذا المطلب بحسب جوزف رسام الذي أنشأ الصفحة، أصبح أكثر من ضرورة في بلد لا يهتم بمسنيه. ويشرح رسام لـ«الأخبار» أنه بعدما تقدم عدد من أفراد عائلته في العمر، شعر بأنهم ذاهبون نحو ظلمة أكيدة. فجاءت فكرة الموقع بهدف إضاءة شمعة تسهم في إنارة غد مجهول. ويوضح أنه «عندما ترى حولك أشخاصاً يكبرون وفي عيونهم شوق العيش والموت بكرامة، فيما يتملك تفكيرك مستقبل أولادك، لا يمكن إلا أن تطلق الصوت عالياً» مطالباً بإقرار ضمان الشيخوخة في لبنان الآن.