أظهرت دراسة صدرت في تموز الماضي وجود ارتباط دال بين الأحداث الصدميّة (التي تشكّل صدمة للمرء) من ناحية، وبين اضطراب الضغوط التالية للصدمة والاكتئاب، من ناحية أخرى، بين الطلاب الجامعيين اللبنانيين، فيما لا ترتبط تلك المتغيّرات بدرجة التديّن. وتسجّل نسب الأحداث الصدميّة واضطراب الضغوط التالية للصدمة ودرجة التديّن معدّلات أكثر ارتفاعاً بين الطالبات الإناث، منها بين الطلاب الذكور، علماً أن الجنسين يظهران معدّلات متساوية في التعرّض لمرض الاكتئاب. وعلى الرغم من عدم وجود أية فوارق دالّة إحصائيّاً على مستوى انتشار اضطرابات الضغوط التاليّة للصدمة والاكتئاب بين الطلاب الآتين من طوائف وأديان مختلفة، إلا أنّ الطالبات الشيعيات في «الجامعة اللبنانيّة» اعتبرن أكثر اكتئاباً من الطلاب المسيحيين، ذكوراً وإناثاً.
تشكّل تلك المعطيات أبرز نتائج دراسة تعالج «الأحداث الصدميّة وعلاقتها باضطراب الضغوط التاليّة للصدمة والاكتئاب والتديّن لدى الطلاب الجامعيين اللبنانيين»، أجرتها الأستاذة في قسم علم النفس في «الجامعة اللبنانيّة» الدكتورة نجوى اليحفوفي، بدعم من «الجامعة اللبنانيّة» و«المجلس الوطني للبحوث العلميّة».
شملت الدراسة 734 طالباً جامعياً (499 شابة و235 شاباً)، تتراوح أعمارهم ما بين السبعة عشر عاماً والثلاثين عاماً، في الجامعتين «اللبنانيّة» و«اللبنانيّة الأميركيّة»، يتابعون دراساتهم في مختلف الاختصاصات، ويؤمنون بأديان مختلفة، وينتمون إلى طبقات اجتماعيّة ومناطق جغرافيّة منوّعة. وقد تمّ جمع البيانات في العام 2009، ونشرت الدراسة في مجلة «علم النفس» الصادرة عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، في تموز من العام الجاري.
الأزمات المفتعلة أثقل من تلك الطبيعية
بحسب اليحفوفي، هدفت الدراسة إلى معرفة العلاقة المحتملة بين الأحداث الصدميّة واضطراب الضغوط التاليّة للصدمة والاكتئاب ودرجة التديّن لدى عيّنة من الطلاب الجامعيين، من جهة، وعلاقة تلك المتغيّرات ببعض العوامل الاجتماعيّة، كالدين والجنس ونوع الجامعة والوضع الاجتماعي من جهة أخرى، «خاصة أن لبنان يفتقر إلى تلك الدراسات، وأن الاضطراب النفسي والاكتئاب يؤديّان إلى سوء التكيّف وإعاقة التقدّم في مختلف مجالات الحياة».
وبحسب التعريفات التي قدّمها بعض الباحثين في علم النفس، يعتبر الحادث الصدمي موقفاً غير عادي، وعنيفا، يهدّد حياة الإنسان وذويه وممتلكاته، ويؤدّي إلى تدهور نفسي، ويخلّف تأثيرات سلبيّة وأعراض مرضيّة. وينجم اضطراب الضغوط التاليّة للصدمة عن حادث صدمي، مثل الكارثة الطبيعيّة أو الإنسانيّة، كالحروب وحوادث السير وغيرهما. وترتكز أعراض الاضطراب التالي للصدمة على تعبير الفرد عن الحادث الصدمي بشكل متكرّر، وتجنّب دائم للمنبّهات المرتبطة بالصدمة، كما يحضر رد فعل فيزيولوجي عند التعرّض لرموز الصدمة، ويسجل نقص في الاهتمامات الاجتماعيّة، وصعوبة في النوم وفي التركيز، وشعور بالقلق والاكتئاب.
ومن المثبت علميّاً أن المضاعفات النفسيّة للأزمات التي يفتعلها الإنسان، أقوى من تلك الناجمة عن الظروف الطبيعيّة. ويعتبر مرض الاكتئاب حالة انفعاليّة تتجسّد في تأخر الاستجابة عند الفرد، والحزن الشديد، والميول التشاؤميّة، وهو ينتج عن ظروف أليمة، من دون أن يتمكّن الفرد في بعض الأحيان من معرفة السبب الرئيسي لحالته، أو للأعراض التي يعاني منها.
أما درجة التديّن، حسب ما قدّمتها الدراسة، فهي تختصر تقييم الفرد الشخصي لدرجة تديّنه.
حرب تموز أولاً
وفق المعطيات الميدانيّة، فإن القصف الإسرائيلي خلال عدوان تموز في العام 2006، شكّل الحادث الصدمي الأوّل الذي ذكره معظم الطلاب، من جميع الطوائف اللبنانيّة، بمعدّل مرتفع بين الطلاب المنتمين إلى الطائفة الشيعيّة. وقد تلاه في ذكر الحوادث، على التوالي، الاشتراك في الحرب، ووفاة عزيز، ورؤية حادث مرعب، وحوادث السير، والتعرّض للغرق.
وتؤكّد اليحفوفي أن الدراسة أظهرت عدم وجود فوارق جوهريّة بين الطلاب المتزوّجين والعازبين، على مستوى الأحداث الصدميّة والاكتئاب ودرجة التديّن، بينما سجّل متوسّط اضطراب الضغوط التالية للصدمة معدّلاً أعلى بين المتزوّجين، بالمقارنة مع العازبين، ونسبت الدراسة ذلك إلى أن المتزوّجين يقلقون على مصير أزواجهم وأولادهم.
تديّن أكثر في «اللبنانية الأميركية»
في ما يخصّ نوع الجامعة، بيّنت الدراسة أن متوسّط الأحداث الصدميّة ودرجة التديّن سجّل رقماً أعلى بين طلاّب «الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة» بالمقارنة مع زملائهم في «الجامعة اللبنانيّة». في المقابل، سجّل طلاب «اللبنانيّة» معدّلات أعلى من أقرانهم في «اللبنانيّة الأميركيّة» على مستوى نسب انتشار اضطراب الضغوط التاليّة للصدمة، ومرض الاكتئاب، بسبب العوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة ودرجة التديّن. فقد أشارت الدراسات السابقة التي أجرتها اليحفوفي وعدد من الباحثين، إلى أنّ الطلاب الذين يتمتّعون بمستوى اجتماعي واقتصادي جيّد، أو مرتفع، كانوا أكثر تفاؤلاً وأقلّ اكتئاباً من طلاب «الجامعة اللبنانيّة». ولفتت دراسات عربيّة وعالميّة إلى أن الطلاب الذين يعتبرون أنفسهم متدينين هم أقلّ عرضة للقلق والاكتئاب من سواهم.
وفي ما يتعلّق بمتغّير الدين، أشارت اليحفوفي إلى أن درجة التديّن أتت متساويّة بين الطلاب الآتين من مختلف الطوائف، مع فارق واحد أشار إلى أن الطلاب المسيحيين اعتبروا أكثر تديناً من الطلاب الدروز. وأضافت اليحفوفي أن «نتائج الدراسة أظهرت أن الطلاب من الطائفتين السنيّة والدرزية عايشوا نسبة أحداث صدميّة أعلى من تلك التي سجّلها المسيحيّون والشيعة.
الضغوط تنتقل عبر الأجيال
من اللافت في نتائج الدراسة، أن انتشار اضطراب الضغوط التالية للصدمة لم يسجّل فوارق دالة إحصائيّا بين الطلاب من مختلف الطوائف، ويعود ذلك بحسب اليحفوفي إلى «النصر الذي حقّقه اللبنانيون والذي خفّف من حدّة الصدمات التي واجهها الطلاب الجنوبيون من الطائفة الشيعيّة، وإلى أنّ جميع الطوائف عاشت الأجواء العامة الضاغطة خلال عدوان حرب تموز في العام 2006».
وذكرت اليحفوفي أن «الدراسة لم تبيّن فوارق في معدّل انتشار مرض الاكتئاب بين الطلاب من مختلف الطوائف اللبنانيّة، إلا أن الإناث من الطائفة الشيعيّة المنتسبات إلى الجامعة اللبنانيّة، كنّ أكثر اكتئاباً من الطلاب المسحيين بشكل عام». وافترضت اليحفوفي أنّ «العوامل الاقتصاديّة التي يعيشها طلاب الجامعة اللبنانيّة، والاعتداءات التي شنّتها إسرائيل ضدّ لبنان، التي تعرّض لها اللبنانيّون بشكل عام وأتباع المذهب الشيعي بشكل خاص، تشكّل تفسيراً لهذا الفارق». ولفتت اليحفوفي إلى أنّ «الدراسات العالميّة تثبت أن ضغوط الحرب وآثارها، تنتقل عبر الأجيال وتمتدّ لفترات طويلة».
إلى ذلك، فضّلت اليحفوفي «عدم افتراض تفسيرات غير مثبتة بالأرقام وبالمعطيات العلميّة، لتلك النتائج، التي ستفيد الباحثين والمهتمّين بمعرفة المتغيّرات المؤثّرة في الصحة النفسيّة للطلاب الجامعيين في لبنان، في سبيل الكشف عن مشاكلهم النفسيّة وعن الفئات الأكثر حاجة لدعم نفسيّ وإرشادي».
وأوصت اليحفوفي بـ«ضرورة إنشاء برنامج توجيه إرشادي وعلاجي لطلاب الجامعة اللبنانيّة عامة، وللطلاب الذين تعرّضوا للقصف بشكل مباشر، وبتقديم الدعم النفسي للطلاب الجامعيين بغية تخطّي الاضطرابات النفسيّة».(السفير 21 أيلول2011)