الدولة تشمّر عن ساعديها لحلّ مشكلة الفقر

إطلاق «برنامج دعم الأسر الأكثر فقراً» الإثنين المقبل عبر 96 مركزاً
لم يعلم «أبو عبد الله» الأب لخمسة أولاد، أن الدولة قررت أخيرا، أن تهتم بأوضاعه المعيشية، وتقيه ذلّ الوقوف أمام روائح القمامة النتنة في الليل، بحثا عما يسد به جوعه، وجوع عائلته. والحال نفسه، وإن عبر مشهدية مختلفة، مع أكثر من 80 ألف أسرة لبنانية يعضّها الجوع والعوز، فتقاوم بصمت حفاظا على ما تبقى لها من كرامة.
«مش مسموح»، «وين الدولة»، «الدولة حدك أنت وين؟».. وغيرها من الشعارات الإعلامية، بدأ اللبنانيون يلحظونها على جوانب الطرق، بهدف حثّ الفقراء منهم على التقدم إلى 96 مركزا ستباشر عملها الاثنين المقبل في المناطق كافة، لرصد أحوالهم، ثم مساعدتهم، وفق «البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقرا»، الذي سيطلقه رئيس الجمهورية ميشال سليمان في «اليوم العالمي للحد من الفقر» في حفل دعت إليه رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الشؤون الاجتماعية في بيت المحامي في بيروت.
على الرغم من أهمية البرنامج الذي يعد «صيغة محدّثة لورقة فقر الحال»، إلا أن المعادلة التقليدية «السمكة أو تعلم الصيد»، تبرز إلى الواجهة، خصوصا أن التجارب الرسمية السابقة في هذا الإطار، جعلت من الاستثناء قاعدة، ومن القاعدة استثناء، حتى بات اللبناني غير متحفّز لمنح ثقته لـ«الدولة» تحت أي ظرف من الظروف، فضلا عن ذلك، هل بالإمكان حماية البرنامج من التجاذبات السياسية اللبنانية التقليدية، بحيث لا يصبح الفقراء مادة لإشعال «حرب المزايدات والتدخلات»؟
أمام هذه المسار التاريخي المشوّه بين الدولة ومواطنيها، يطمح «البرنامج» إلى إعادة ترميم الجسر المتصدّع، عبر «إعطاء السمكة» في مرحلة أولى، للمواطنين الغارقين في العوز والحاجة نتيجة كبر السن أو الإعاقة أو فقدان المهارة والتدريب أو الأمية أو وفاة رب الأسرة أو الطلاق.. والمقدّر عددهم بين 8 في المئة (وفق إحصاءات رسمية صادرة في العام 2008)، و13 في المئة وفق تقديرات حديثة، على أن تحدد النسبة الإجمالية الرسمية في ختام المرحلة الأولى من البرنامج في منتصف ربيع العام المقبل. ولا يقتصر الأمر على «إعطاء السمكة» فقط، بل يواكب ذلك، وفق مدير «وحدة الإدارة المركزية لبرنامج دعم الأسر الأكثر فقرا في لبنان في رئاسة مجلس الوزراء» رمزي نعمان، «تعلم الصيد» في مرحلة لاحقة، لدمج القادر منهم في عملية الإنتاج، والاعتماد على نفسه، ضمن استراتيجية تنموية تتشارك فيها الوزارات والهيئات والجمعيات والجهات المعنية كافة، وفق خطة عمل تتضافر فيها الجهود والرؤى الاستشرافية لخفض نسبة الفقر في السنوات المقبلة.
لكن، في الوقت نفسه، لا يخفي نعمان عبر «السفير»، قلقه من دخول البرنامج الذي سيعتمد «المؤشرات التقريبية»، (وهو أسلوب علمي عالمي لتصنيف العائلات وفق معدلات الرفاهية)، في لعبة السياسة. وبعدما يبدي خوفه من تحول الفقر إلى مادة تجاذب سياسي، يشدد على أهمية تحصين اللوائح الناتجة من المراكز من التدخلات من أي شخص كان، كاشفا عن سعي حثيث مع المعنيين لتحصين البرنامج عبر اعتماد المعادلة الحسابية والمعدلات الرقمية، بحيث لا يكون هناك توزيع طائفي ومناطقي للوائح، فضلا عن مراقبة المحققين الاجتماعيين، ونظام الشكاوى.

تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي

يندرج البرنامج الهادف إلى تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي، في صلب خطة العمل التي وضعتها الحكومة في إطار الاصلاحات الاجتماعية التي قدمت إلى مؤتمر باريس 3 في العام 2007. وتضمنت من جملة ما تضمنته، تقديم خدمات اجتماعية أساسية لمساعدة الأسر الفقيرة والأكثر فقرا في تخطي واقعها الاقتصادي والاجتماعي، وذلك بعد عملية رصد علمية تنفذها وزارة الشؤون الاجتماعية عبر المركز الموزعة في المناطق كافة، وتضم نحو 400 محقق اجتماعي إضافة إلى موظفي الوزارة، مهمتها استقبال كل اللبنانيين الفقراء، والتدقيق في حالاتهم ومعلوماتهم وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، بعد تعبئتهم الطلبات والإجابة على استمارة المحققين. وينتقل البرنامج في مرحلته الثانية إلى «وحدة الإدارة المركزية لبرنامج دعم الأسر الأكثر فقرا في لبنان في رئاسة مجلس الوزراء»، حيث تدقق بالمعلومات الواردة في اللوائح على المستوى الوطني بغية ضبطها وتنقيتها من الأسماء غير المستحقة للدعم، وذلك عبر الدوائر الرسمية كافة، وبعد إدخال احتساب المعدل الرقمي الإجمالي للعائلات ضمن اللوائح، ترفع إلى اللجنة الوزارية المشتركة للشأن الاجتماعي، ومنها إلى مجلس الوزراء.
ويوضح نعمان أن آلية عمل البرنامج اكتملت، بعدما رصد مجلس الوزراء سلفة مالية للبرنامج تبلغ 28 مليونا، لإعداد سلة التقديمات تتضمن مروحة واسعة من المساعدات الخدماتية المختلفة، وأصبحت المراكز مجهزة بأقسام المعلوماتية والجهاز البشري المدرّب للتعاطي مع الأسر الفقيرة المتقدمة للتسجيل، بحيث تلحظ الاستمارة دخل العائلة ومصروفاتها الشهرية، وعددا من المؤشرات منها: عدد أفرادها، هل فيها معوق، مسن، عاطل من العمل، وضع الأسرة التعليمي، هل لديها تأمين طبي، الواقع الذي تعيش فيه: البيت، الأثاث، هل تمتلك سيارة، اشتراك كهربائي، وغيرها من المعلومات والمؤشرات، بحيث تحتسب المعطيات في ما بينها، لإعطاء ثقل حسابي يوضع ضمن معادلة تسمح باحتساب معدل رقمي لكل عائلة، ثم تقارن مع المعدل الوطني، وكل عائلة تأتي تحت الخط المحدد، تحتسب ضمن الأسر المستفيدة من البرنامج.
من أهداف البرنامج أيضا، بناء قاعدة معلومات وطنية حول الأسر الأكثر فقرا، ويستند في انطلاقته إلى نتائج الدراسة الوطنية للأحوال المعيشية للأسر الصادرة عن دائرة الاحصاء المركزي في العام 2004. ويقول نعمان: «صحيح أن الدراسات أظهرت أن النسبة الأعلى من الفقراء في الشمال (حوالى 38 في المئة من الفقراء، و46 في المئة تحت خانة الفقر المدقع)، لكن واقع الحال يثبت أن الفقر لا يقتصر على منطقة أو مدينة أو حي في لبنان، بل ثمة فقراء في كل مكان، وتاليا النسب تختلف يوما بعد يوم، وخصوصا في بلد يتعرض إلى «خضّات أمنية» دائما».
ولا يقتصر عمل البرنامج على تقديم المساعدات للفقراء وحسب، بل ينتظر أن تستفيد من نتائجه كل الوزارات في استراتيجيات عملها، بحيث يسهّل البرنامج لصانعي القرار على المستوى الحكومي، من تحسين الأداء في الوصول إلى الأكثر فقرا بفاعلية، ويقلل من ازدواجية العمل، مما ينعكس على ترشيد الاستثمارات الحكومية المتعددة.

حلقة توارث الفقر من جيل إلى جيل

«البرنامج لا يحلق وحيدا»، يقول نعمان، «فهو يساهم بامتصاص الأزمات، كي لا يزداد الفقراء فقرا»، موضحا «أنه دفعة استراتيجية إلى الأمام بهدف خلق المزيد من فرص العمل، وتطوير التربية في العائلات، وبناء رأسمال للعائلة، والأهم ايقاف حلقة توارث الفقر من جيل إلى جيل»، مؤكدا أن «البرنامج يعطي الحق لكل أسرة للتقدم من الدولة طلبا للمساعدة، عملا بمبادئ المساواة، العدالة، مساعدة المحتاجين، الموضوعية والشفافية»، آملا أن «تتحفز الأسر للبرنامج، وتضع ثقتها فيه، وأن تساعدنا لنتمكن من مساعدتها»، مطمئنا أن «هناك جهودا حثيثة تبذل للحفاظ على سرية الأسماء».
ويلفت إلى أن المساعدات ستكون شهرية، ومن المقترحات أن يكون هناك مساهمة في حدود 30 في المئة من كلفة فاتورة الاستشفاء، ورسوم التسجيل في المدارس، وفاتورة الكهرباء، على أن تواكبها متابعة لتطور الأسرة اقتصاديا.
ومن النتائج المتوقعة للبرنامج، أيضا، «مساعدة حوالى 400 ألف مواطن في مواجهة الظروف المعيشية المتعثرة، مع الحرص على ألا تخلق المساعدات حافزا لعدم العمل والاعتماد المطلق عليها»، بل على العكس، فإن البرنامج، بحسب نعمان، «يسهل بناء الامكانيات وخلق فرص عمل مناسبة لهذه الشرائح الاجتماعية».
أما عن تفاصيل آلية عمل، فيشرح نعمان، «نظام المؤشرات التقريبية يلحظ مجموعة مؤشرات مقاسة تصرح بها العائلة، بالإضافة إلى نتيجة زيارات ميدانية لدراسة أوضاع العائلات المعيشية (موجودات الأسرة، الوضع المعيشي، خصائص السكن)، وعليه تصنف العائلات وفق معدلات رفاهية من الأكثر فقرا إلى الأقل فقرا، مما يتيح لصانعي السياسات الحكومية معلومات تفصيلية حول الأسر الفقيرة والمهمّشة، وتاليا المساعدة على وضع وتطبيق البرامج الكفيلة بتوفير السلة، وفق إجراءات فاعلة وعلمية للمراقبة والتقويم الدوريين». وتكمن أهمية هذا الأسلوب، «في أنه يسمح بتركيز التقديمات الاجتماعية على الفئات المستحقة، والتخفيف من تسربها إلى الفئات غير المستحقة، وزيادة نسبة التغطية للعائلات الفقيرة المستحقة، ومزيد من الشفافية والمصداقية والحد الأقصى من التخفيف من إمكانيات الغش، وعدالة أكثر في توزيع المساعدات».
يشار إلى أن الإحصاء الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العام 2008، يلحظ أن 28 في المئة من اللبنانيين يعيشون على أقل من 4 دولارات يومياً، ويصنّف حوالى 8 في المئة من اللبنانيين تحت خانة الفقر المدّقع بمدخول لا يتجاوز 2.4 دولار في اليوم للفرد، وتشير التقديرات إلى أن عدد السكان الذين يعيشون تحت خانة الفقر المدقع، يرتفع اطرادا بعد كل وضع أمني يشهده لبنان.
----------

… وأخيراً اجتمعت الدولة اللبنانية بكاملها، لتحلّ مشكلة الفقر في لبنان. رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، كلّهم كانوا حاضرين أمس لإطلاق «البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً»، إلى جانب عدد كبير من الوزراء والنوّاب في «بيت المحامي» في منطقة المتحف. «الدولة حدّك، لكن أنت وين؟». هكذا تقول اللّوحات الإعلانيّة في الطرقات، المروّجة «للبرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً»، أو ما يُعرف أيضاً ببرنامج «حَلّا، لدعم الأسر الأكثر فقراً» أي أنّه «حلّها» الدولة أن تلتفت إلى الـ8% من اللبنانيين، المصرّح عنهم، الذين يعيشون في الفقر المدقع، حيث يناهز دخل الفرد الـ3600 ليرة، ويعاني28% من الفقر. صار بإمكانك أن تعرف ما تقصده الدولة في إعلانها: «تسجّل، في أحد مراكز وزارة الشؤون الاجتماعية في المناطق كافة».
المشروع المموّل من الحكومة اللبنانية، البنك الدولي، الحكومتين الإيطاليّة والكنديّة، يأتي في إطار التزام لبنان البيان الوزاري والتوجّهات الدوليّة التي أقرّها، وخصوصاً مؤتمر «باريس 3» للأطراف المانحة بخفض معدّل الفقر الشديد. يقول الوزير وائل أبو فاعور، إنّ البرنامج سيطال كلّ المناطق اللبنانيّة ومبادئه هي «المساواة والعدالة، مساعدة الأسر الأكثر فقراً (التي يتركّز معظمها في الشمال وجبل لبنان) والموضوعيّة والشفافيّة». وتنصّ آليّة التسجيل في البرنامج على تقديم الأسر طلباً في مركز الشؤون الاجتماعية في منطقة إقامتها. بعد التأكّد من صحّة الطلب، يُرسَل باحث اجتماعي من مركز الخدمات الإنمائيّة لزيارة الأسرة في المنزل وتعبئة استمارة خاصة بها. تُحدَّد المنافع والخدمات التي تستفيد منها الأسر بعد احتساب معدّل الفقر لكل أسرة من خلال صيغة، وفقاً لوزن كل إجابة (مؤشّر). التأمينات، بحسب أبو فاعور، تستبعد نهائياً المعونة النقدية، «تلافياً للغشّ»، وهي تتضمّن الاستشفاء المجاني، الرعاية الصحيّة الأوليّة وتقديم الأدوية اللازمة، وتتضمّن أيضاً إعفاء أبناء هذه العائلات من رسوم التسجيل في المدارس الرسمية بمختلف مراحلها وتوفير الكتب المدرسية، ويُناقَش إعفاء هذه العائلات أيضاً من رسوم الاشتراك في الكهرباء.
من جهته، رأى الرئيس سليمان أنّ «الرأسمال الاجتماعي يقوم على رفع قدرات المواطن الذي يتحقق بتضافر الجهود وحشد الطاقات. وهذا البرنامج يعطي الحق لكلّ أسرة بالتقدّم إلى الدولة وطلب المساعدة، مع الحرص على ألّا تمثّل هذه المساعدات حافزاً للتوقف عن العمل».
السياسيون في الحفل كانوا بمثابة «الستار». نال كل واحد منهم قسطاً وافراً من التصفيق. لكن أبو فاعور ذكر أنّ «هذا المشروع سيكون بمثابة اختبار حقيقي لصدقية الدولة»، فربما عندما تتقلّص نسبة الفقراء في لبنان ونشهد ازدياداً في المشاريع التنمويّة، نرى من منهم يستحقّ التصفيق.

مفاجأة غير سارة

لم تكن مناسبة إعلان «البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً» سعيدة على الجميع؛ إذ بعد وصول رئيس الجمهوريّة العماد ميشال سليمان إلى قاعة المؤتمر، مُنع ثلاثة صحافيين على الأقلّ من دخول القاعة. تقول إحدى الزميلات التي رفضت التصريح عن اسمها، إنّها مُنعت من الدخول، مع أنّ اسمها كان مسجّلاً على لائحة الإعلاميين بحوزة الجيش، لكن العناصر الأمنيين أخبروها بأنّها لا يمكنها الدخول بما أنّها «لا تنتمي إلى الوكالة الوطنيّة للإعلام»! وتقول الإعلامية: «لا أدري كيف منعونا من الدخول بعد أن دعينا رسمياً إلى المؤتمر». مصدر مشرف على التنظيم الإعلامي في المؤتمر، رفض تعرّض الإعلاميين للإساءة، لكنه أضاف أنّ البروتوكولات الأمنيّة تغيّرت بسبب حضور رئيس الجمهوريّة شخصياً وأقفلت الأبواب نهائياً عند دخوله القاعة، بما أنّ الأمن التابع للرئيس يقوم بإجراءاته الخاصّة.