مخاطر تهدّد الضمان الاجتماعي اللبناني في وجوده وديمومته

وم دخل لبنان ميدان الضمان الاجتماعي في النصف الثاني من القرن المنصرم، إنما دخله بخطى ثابتة كما تدل على ذلك نصوص قانون الضمان الاجتماعي اللبناني الصادر في 26/9/1963. فمن يعود إلى دراسة هذا القانون بكتبه الثلاثة وأبوابها وفصولها وموادها، يظهر له بوضوح متانة بنيان هذه العمارة الاجتماعية التي ارتكزت إلى الأساسيات التالية:
1ـ إنشاء مؤسسة عامة وحيدة وحديثة التركيب «الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي» لإدارة نظام الضمان الاجتماعي بفروعه الأربعة المنصوص عنها في المادة السابعة من هذا القانون:
1ـ ضمان المرض والأمومة. 2ـ ضمان طوارئ العمل والأمراض المهنية. 3ـ نظام التعويضات العائلية. 4ـ نظام تعويض نهاية الخدمة (الذي أنشئ لمرحلة مؤقتة تمهيداً للانتقال به إلى نظام ضمان الشيخوخة «التقاعد والحماية الاجتماعية»)، على أن ينفذ على مراحل ثلاث متوالية تغطي بموجبها وفي نهايتها جميع فئات الشعب اللبناني والمقيمين على أرضه.
لقد انطوت هذه الفروع الأربعة على تقديمات من شأنها تغطية المخاطر الاجتماعية الثمانية الأولى التي نصت عليها الاتفاقية الدولية رقم 102/1952 (اتفاقية الحد الأدنى للضمانات الاجتماعية) الصادرة عن منظمة العمل الدولية والتي أبرمها لبنان في حينه هي: الشيخوخة والعجز والوفاة والمرض والأمومة والأعباء العائلية وطوارئ العمل (إصابات العمل) والأمراض المهنية.
2ـ اعتماد نظرية التوزيع (وليس الرسملة) في التمويل وفي التقديمات وفق قاعدة «من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته» فتتحمل عبء التمويل قوى الانتاج: أصحاب الأعمال والعمال وفق معدلات تختلف باختلاف كل شريحة وقدرتها.
3 ـ كفالة النظام لهذه التقديمات وحلوله محل صاحب العمل في تأديتها مباشرة. أما الدولة فقد اكتسبت صفة «دولة الرعاية الاجتماعية» بما تقدمه من مساهمة في تقديمات فرع المرض والأمومة بنسبة 25% (المادة 73) بالإضافة إلى كفالتها استقرار واستمرار التوازن المالي لهذا النظام ولفروعه الأربعة بتقديمها سلفات مالية او مساعدات استثنائية في حالتي التعثر المالي وحدوث كارثة وطنية تؤدي إلى عجز بالغ بهذا النظام وفروعه (المادة 66 ـ الفقرتان 3 ـ 4).
4ـ استقلالية صناديق هذه الفروع الأربعة مالياً بعضها عن البعض الآخر.
5ـ توازن الواردات (الاشتراكات وغيرها) مع النفقات (التقديمات ـ النفقات الإدارية ـ الاحتياط المالي الدائم) دون أي عنصر آخر باعتبارها مؤسسة لا تبغي الربح. وعليه فإن الاشتراكات لا تزاد إلا في ضوء زيادة النفقات، ولقد لحظ لها القانون دينامية من شأنها ان تبقى مؤمنة لهذا التوازن (المادة 66).
6ـ عدم ربط التقديمات بالاشتراكات عند دفع التقديمات للمضمونين الذين تربطهم بصاحب عملهم علاقة استخدام (دون الفئات الخاصة) في وقتها النظامي وعند توفر شروطها بصرف النظر عما إذا كان صاحب العمل قد سدد الاشتراكات في حينها أو تأخر في تسديدها او امتنع عن ذلك حيث يعود للصندوق اكراه صاحب العمل على تسديدها وفقاً للأصول القانونية والنظامية النافذة.
وسارت الأمور على ما يرام في فرعي التعويضات العائلية والمرض والأمومة في ظل استمرار التوازن المالي لكل منهما. حتى فوجئنا في السنوات الأخيرة باضطراب هذا التوازن وصولاً إلى عجز بالغ وتلاشي الاحتياط المالي الداعم لهما، مما كان يعني توقفهما عن الدفع (وهذا هو الإفلاس بعينه) لولا تجرؤ المسؤولين في الصندوق وإقدامهم على مد يدهم إلى أموال صندوق تعويض نهاية الخدمة دون التقيد بالأصول النظامية التي تحدد أصول الاستدانة وكيفية تسديدها.
وفي تقديرنا أن لهذا الاضطراب وعدم التوازن المالي أسباباً ومقدمات عديدة أوصلت الفرعين إلى ما هما عليه في الوقت الحاضر، سنحاول فيما يلي إيراد بعضها:
1ـ تخفيض معدل الاشتراك في الفرعين منذ 1/4/2011 (من 15% إلى 9% فرع المرض والأمومة ومن 15% إلى 6% فرع التعويضات العائلية) بدون الاستناد إلى دراسة وضعهما المالي الحقيقي ومن دون أية دراسة اكتوارية تحدد نسبة تخفيض معدلي الاشتراك التي جاءت عشوائية (المرسومان رقم 5101 ورقم 5102 تاريخ 24/3/2001).
2ـ تدن متسارع لمستوى الجباية من 80% إلى 15% طوال فترة الحرب والأحداث الأمنية والذي عاود الارتفاع متباطئاً بعدها ليصل في الوقت الحاضر إلى ما دون المستوى النظامي المقبول في أحسن الأحوال.
3ـ امتناع وزارة المالية عن تسديد الاشتراكات المتوجبة على الدولة (بصفتها صاحب عمل) عن المتعاقدين والأجراء الذين تستخدمهم ويعدون (17500).
امتناع وزارة المالية عن تسديد الاشتراكات المتوجبة على الدولة عن مساهمتها المحددة بنسبة 9,5% من الاشتراك المفروض على السائقين العمومين المالكين لسياراتهم ويقودونها بأنفسهم لكل من فرعي المرض والأمومة والتعويضات العائلية (القانون رقم 1/89 تاريخ 15/1/1989).
امتناع وزارة المالية عن تسديد الاشتراكات المتوجبة على الدولة عن مساهمتها المحددة بنسبة أربعة أخماس الاشتراك المفروض على المختارين لفرع المرض والأمومة (القانون رقم 225 تاريخ 8/6/2000).
امتناع وزارة المالية عن تسديد مساهمة الدولة المحددة بنسبة 25% سنويا من مجموع تقديمات فرع ضمان المرض والأمومة وتقديمات القسم الخاص بالمضمونين الاختياريين (المادة 73 ضمان).
وقد بلغ مجموع هذه الديون المتوجبة على الدولة حتى نهاية 1999 (860 مليار ل.ل) عمدت الدولة مؤخراً إلى تقسيطها على أقساط سنوية لا تتناسب في مقدارها المحدد وحاجة الصندوق الماسة إلى السيولة.
4ـ صدور القانون رقم 449 تاريخ 29/7/2003 المتعلق بإعفاء أصحاب الأعمال في المناطق المحررة والقرى المتاخمة لها من الاشتراكات المتوجبة لفرعي المرض والأمومة والتعويضات العائلية عن فترة الاحتلال والمحددة بمئات الملايين لكل فرع، علماً بأن المضمونين العاملين عند هؤلاء استمروا بالاستفادة وبدون انقطاع من تقديمات هذين الفرعين طوال هذه المدة.
5ـ اتفاقية الأفران المعقودة بين الصندوق وبين اتحاد نقابات أصحاب الأفران منذ 1982 والتي شكلت التفافا مقصوداً وغير بريء على أحكام المادة 76.
6ـ امتناع الشطر الأوسع من أصحاب الأعمال واستنكافه عن دفع الاشتراكات المقدرة في حينه بثلاثة آلاف مليار، وقد ساعد هؤلاء على المضي في موقفهم ما طرحته بعض مراجع الحكم في عقد التسعينيات من مسودة مشروع قانون يرمي إلى إعفاء هؤلاء والدولة من جميع الاشتراكات المتوجبة لفرعي التعويضات العائلية والمرض والأمومة من تاريخي البدء بتنفيذهما وحتى 31/12/2001. وعندما جوبهت مسودة مشروع هذا القانون بردة فعل عارمة خاصة من قبل أصحاب الأعمال الذين يواظبون على تسديد اشتراكاتهم لعدم دستوريته سحبت مسودته من التداول ثم أعيد طرح مشروع قانون لتقسيط هذه المتوجبات لفترة عشرين سنة (؟!) فجوبه كما الأول حتى صرف النظر عنه.
7ـ وقائع عديدة أثبتتها الأيام وأعمال المراقبة وشكاوى الأجراء/ المضمونين، أن أعدادا واسعة من أصحاب الأعمال الذين يسددون اشتراكاتهم لا يلتزمون بأحكام القانون حيث لا يصرحون في حينه عن الأجور الفعلية والصحيحة.
8ـ هدر واسع في تقديمات فرع ضمان المرض والأمومة بسبب اضطراب العلاقة وعدم استوائها بين الصندوق وسائر أطراف الجسم الصحي (مستشفيات، أطباء، مختبرات، مراكز تصوير ودواء) وعدم التقيد بالنصوص القانونية والنظامية والتعاقدية.
9ـ ديون متوجبة للصندوق على مستشفى البترون (اشتراكات، مبالغ تسوية، سلفات) نعتقد أن هذا المستشفى بات غير قادر على تسديدها محددة بمئات الملايين من الليرات اللبنانية.
10ـ صدور القانون رقم 18 تاريخ 5/9/2008 (إنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس) الذي قضى بعدم إخضاع العاملين (أصحاب عمل وأجراء) في هذه المنطقة إلى قانوني العمل والضمان الاجتماعي وبتشجيع أصحاب الأعمال على تأمين أجرائهم صحياً لدى شركات التأمين الخاصة.
11ـ إن عدم التزام إدارة الصندوق بالقاعدة الذهبية القائمة على تنويع محفظة أموال التأمينات الاجتماعية وتوزيعها مثالثة بين النقد الوطني والعقارات والنقد الأجنبي بما فيه المعادن، وان عدم استثمار هذه الأموال في القطاعات الاقتصادية المربحة (في داخل البلاد وخارجها) تماماً كما تفعله المؤسسات التأمينية الاجتماعية المستقرة في العالم، وان الاقتصار على الاستثمار في سندات الخزينة فقط، كان كله سياسة خاطئة وقاتلة.
وفي تقديرنا ان معالجة هذه الأسباب أمر ممكن ودفعة واحدة تكفل إعادة التوازن المالي وتمكن هذين الفرعين من متابعة رسالتهما الاجتماعية بقوة وثبات إنما بشرط انطلاق الدولة لتصويب اوضاع الصندوق وتصحيحها وفق الأسس التي سبق وطرحناها مرات عديدة في إطار نقابة مستخدمي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وآخرها في 25/10/2001، على ان يكون ذلك كله متزامناً وجوبا قانونيا وضرورة اجتماعية واقتصادية بالمباشرة فوراً في تطبيق احكام المادة التاسعة المعدلة بالقانون رقم 16/75 تاريخ 11/4/1975، ولا سيما منها ما نصت عليه الفقرة هـ ـ البند 1ـ المقطع أولا ونصها: «تحدد بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العمل وإنهاء مجلس ادارة الصندوق وبالشروط المحددة فيها: فئات سائقي السيارات العمومية والحرفيين وسائر فئات الأشخاص اللبنانيين غير المذكورين في هذه المادة (التاسعة) الذين تتبين ضرورة إخضاعهم منذ المرحلة الأولى لبعض أو جميع فروع الضمان الاجتماعي».
وبمقتضى هذا النص يكون الأمر قد انتهى إلى ما يلي:
ألغيت ضمنياً نظرية المراحل الثلاث التي سبق ونصت عليها المادة الثامنة من قانون الضمان الاجتماعي الصادر بتاريخ 26/9/1963 وتم دمجها في مرحلة واحدة. وألغيت معها ضمنياً وتبعا لها المادة 11 المتعلقة بالمضمونين الاختياريين وعادت الفئات المنصوص عنها في هذه المادة الملغاة واندمجت مع سائر فئات الأشخاص اللبنانيين التي صار لمجلس الوزراء صلاحية إخضاعها بمراسيم لكل او لبعض فروع الضمان الاجتماعي منذ 11/4/1975. الا انه وخلافاً لهذا النص القانوني فقد صدر المرسوم رقم 7352 تاريخ 1/2/2002 الذي وضع الضمان الاختياري موضع التنفيذ اعتبارا من 1/2/2003.
والآن وبعد مرور حوالى السنوات الثماني على تنفيذ هذا الضمان الاختياري بمحاسبته الخاصة والمستقلة عن محاسبة فرع ضمان المرض والأمومة وبعدما ثبت منذ البداية استحالة تأمين التوازن المالي فيه مهما تكررت زيادة الاشتراكات على مضمونيه، وبعدما صار مشكلة (طالما حذرنا منها منذ بداية تنفيذه) راحت تتفاقم بشكل متسارع وألحقت الضرر الفادح والفاضح بمضمونيه إن على مستوى الاستشفاء وان على مستوى الطبابة الخارجية ومستلزماتها. لذلك يقتضي المبادرة فوراً إلى ما يلي:
1ـ الإعلان عن الغاء هذا الضمان الاختياري لعدم قانونية انشائه وذلك بإبطال المرسوم رقم 7352 تاريخ 1/2/2003
2ـ إصدار المراسيم المتعلقة بنقل مضموني الضمان الاختياري إلى فرع ضمان المرض والأمومة وبنفس الاشتراك الذي كان مفروضاً عليهم اثناء انتسابهم الاختياري.
3ـ انصراف المعنيين في وزارة العمل وفي الصندوق إلى المباشرة فوراً بتطبيق الاحكام الجديدة من المادة التاسعة المعدلة وتطبيقها على جميع فئات سائر الأشخاص اللبنانيين الذين ما زالوا حتى الآن خارج نظام ضمان المرض والأمومة الذين يقدر عددهم بنسبة 46% من الشعب اللبناني (حسب ما تقول به إحصاءات المؤسسات التأمينية العامة القائمة في لبنان) وهم الذين تتولى حالياً وزارة الصحة العامة تغطية استشفائهم فقط وتأمين أدوية الأمراض الثقيلة مجاناً للمصابين بإحداها لمن شاء منهم.
ونحن نأمل ونترقب البدء بتنفيذ هذه الورشة التاريخية والملحة التي تأخرت أكثر من ست وثلاثين سنة لأسباب عديدة أهمها سوء النية المبيتة تجاه الضمان الاجتماعي ومستقبله ووجوده كما لاحظنا اعلاه، إذ بمعالي وزير العمل الأستاذ شربل نحاس يفاجئنا بكتابه المرفوع إلى مقام رئاسة مجلس الوزراء رقم 2221/3 تاريخ 14/9/2011 والمتضمن «مشروعاً للتغطية الصحية الشاملة لجميع المواطنين اللبنانيين وتمويله من الموازنة العامة وبديلاً لجميع الأنظمة الصحية النافذة في المؤسسات التأمينية العامة متجاهلاً بذلك أحكام قانون الضمان الاجتماعي بهذا الخصوص وقافزاً فوقه ومخالفاً دوره وصلاحياته بصفته وزير الوصاية على الضمان الاجتماعي وطالباً إقرار هذا المشروع مبدئياً في مجلس الوزراء كي تتخذ على هذا الأساس الاجراءات التنفيذية اللازمة في مشروع موازنة 2012».
فعلى ماذا ينطوي هذا المشروع/النظام؟
أولاً: يهدف هذا النظام إلى التغطية الصحية الشاملة لجميع المواطنين اللبنانيين المقيمين بمعزل عن وضعهم القانوني في العمل (أصحاب أعمال، أجراء من مستخدمين وعمال، مواطنون بدون عمل وبدون انتاج)، إضافة إلى تغطية وشمول مقيمين آخرين متى كان ذلك مناسباً.
ويوفر هذا النظام للمشمولين به مروحة من الخدمات الصحية داخل المستشفى وخارجه مماثلة لتلك التي يقدمها فرع ضمان المرض والأمومة المنصوص عنه في قانون الضمان الاجتماعي (الكتاب الثاني ـ الباب الأول ـ المواد 13 ـ 27) على أن يغطي هذا النظام نسبة 85% من كلفة المعالجة الصحية (داخل المستشفى وخارجها) ويغطي المريض الباقي (15%) مع سقف لمشاركته بحسب الخدمة (من دون توضيح ما تعنيه هذه العبارة).
ويتيح هذا النظام للمشمولين به حرية استكمال مروحة خدماته عبر برامج تأمين صحي تكميلية، ولا سيما منها للفئات التي تتمتع حاليا بخدمات صحية أعلى كماً ونوعاً او بدرجة تغطية أوسع.
ثانيا: يحل هذا النظام الجديد محل صندوق ضمان المرض والأمومة الحالي ويعهد بإدارته إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بالتزامن مع إصلاحه وتمكينه (من دون ان يبين ما هي حدود هذا الإصلاح وهذا التمكين ومن دون ان يوضح ايضا شكل وطبيعة هذه الادارة القانونية).
وتجدر الإشارة هنا إلى ان ذلك يوجب في ضوء ما ينص عليه هذا المشروع/ النظام حل وتصفية أنظمة وأجهزة التأمينات الصحية العامة كافة التي تدير حاليا أنظمة تأميناتها الصحية في مؤسساتها وهي: (تعاونية موظفي الدولة ـ تعاونيات قوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة ـ تعاضدية القضاة ـ الطبابة العسكرية ـ تعاونية أساتذة الجامعة اللبنانية ـ فرع ضمان المرض والأمومة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي).
ثالثا: يمول هذا النظام الجديد من الموازنة العامة للدولة وذلك باستحداث مطارح ضريبية تطال الأرباح غير المرتبطة بعوامل الانتاج أي الفوائد والأرباح الناتجة عن التحسين العقاري وعن المتاجرة بالأسهم.
رابعاً: ان هذا المشروع/ النظام وهو يحدد ويعدد الخطوات الاجرائية اللازمة لوضعه موضع التنفيذ مع بدء العام 2012 فإنه يشير إلى: «تخصيص الجهود في وزارتي العمل والصحة وبمؤازرة المؤسسات الدولية المعنية (منظمة العمل الدولية والبنك الدولي اللذين أبديا تأييدهما للمشروع بحرارة واستعدادهما لتقديم المساعدة الفنية المطلوبة).
ولا ينسى هذا المشروع/ النظام من ان يتبنى دراسة البنك الدولي التي تشير إلى «أن تطبيق نظام التغطية الصحية الشاملة مع إلغاء الاشتراكات وتمويله عبر الضرائب يؤدي إلى نتائج إيجابية على صعيد رفع الطلب على العمالة لدى المؤسسات وانخفاض معدلات البطالة والهجرة وانخفاض حصة العمل غير النظامي في الاقتصاد اللبناني(؟!).

ملاحظات على هذا المشروع/النظام

1ـ إذا كان المقصود من تطبيق هذا المشروع/ النظام هو توفير نظام ضمان صحي شامل وإلزامي يشمل ويغطي كافة المواطنين اللبنانيين غير المشمولين بأنظمة التأمينات الصحية العامة النافذة في لبنان، فإن ذلك قد حدث وتحقق بصدور قانون الضمان الاجتماعي اللبناني بتاريخ 26/9/1963 ولاحقا بتعديل المادة التاسعة منه بالقانون رقم 16/75 تاريخ 11/4/1975. وان عدم إعمال هذا التعديل حتى اليوم باستكمال اخضاع سائر فئات الشعب اللبناني التي ما زالت خارج التغطية بفرع ضمان المرض والأمومة وتقديماته انما هو مسؤولية الدولة (وزارة الوصاية ومجلس الوزراء) وتقصيرها وتخليها عن وظيفتها الاجتماعية بصفتها دولة الرعاية الاجتماعية.
2ـ إذا كان المقصود من تطبيق هذا المشروع/النظام هو تحرير أصحاب الأعمال من موجب الاشتراك بذريعة انه «يؤثر سلبا على عوامل الانتاج وكلفته ويسبب البطالة والهجرة لليد العاملة». إذا كان هو المقصود فعلاً فإننا نكون قد خرجنا بهذا المشروع/النظام على فلسفة الضمان الاجتماعي ونكون تكراراً أمام محاولة حكومية جديدة لإعفاء الدولة وأصحاب الأعمال الطبيعيين والمعنويين من الاشتراكات المتوجبة عليهم وغير المدفوعة واستطراداً نكون أمام محاولة حكومية جديدة على طريق تصفية وحل نظام الضمان الاجتماعي بفروعه الأربعة الحالية وفرعاً بعد فرع تنفيذاً لوصفات البنك الدولي وخبرائه الرامية إلى تصفية الضمان الاجتماعي (فكرة ومؤسسة وتقديمات) والعودة بعلاقات العمل والضمانات الاجتماعية إلى ما قبل دولة الرعاية الاجتماعية إلى دولة النيوليبرالية والعولمة.
3ـ ورد في الأسباب الموجبة لهذا المشروع/النظام «إن العلة الأساسية في فرع ضمان المرض والأمومة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تكمن في توقف استفادة المضمونين بعد سن التقاعد، وفي هذه الحالات يكون هؤلاء في ذروة حاجتهم إلى التغطية الصحية...». ونحن نرى ان في هذا الكلام كل الصحة. الا ان العلة الأساسية ـ وطوال هذه السنوات ـ ليست في فرع ضمان المرض والأمومة ـ كما يقول هذا المشروع/النظام ـ بل في عدم وضع مشروع قانون ضمان الشيخوخة والعجز والوفاة (التقاعد والحماية الاجتماعية) موضع التنفيذ قبل تنفيذ نظام ضمان المرض والأمومة، باعتبار ان هذا النظام العتيد هو الذي يكفل استمرار تغطية المتقاعدين بتقديمات فرعي ضمان المرض والأمومة والتعويضات العائلية. وإلى جانب ذلك فقد صدر في العام 1975 القانون رقم 16/75 تاريخ 11/4/1975 الذي فتح المجال لإدخال سائر فئات المواطنين اللبنانيين الذين ما زالوا خارج أي تغطية إلى الضمان الاجتماعي بكل او بعض فروعه وبالتحديد منها فرع ضمان المرض والأمومة بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء. فهلا حسم معالي وزير العمل الحالي هذا الموضوع وتدارك اخطاء أسلافه وزراء العمل منذ 11/4/1975 واقترح المرسوم اللازم لذلك الآن وبالسرعة اللازمة.
4ـ صحيح ان ما ورد في الأسباب الموجبة من «ان النظام الصحي الحالي يتسم بوجود فائض في العرض (نسبة الأطباء والأسرّة والتجهيزات والصيدليات إلى عدد المقيمين) ما يساهم في تكريس مستويات مرتفعة للكلفة الصحية ويضغط على الموارد الاقتصادية المتاحة... ولكن من المسؤول عن ذلك؟ ان وزارة الصحة العامة هي المسؤولة دستورياً وقانونياً عن وضع سياسة صحية تكفل عدم وجود فائض في العرض نسبة إلى عدد المقيمين.
5ـ لقد ورد في الأسباب الموجبة لهذا المشروع/النظام «أن الاشتراكات المفروضة على أصحاب الأعمال وعلى العمال هي بمثابة اقتطاعات ضريبية على عوامل الانتاج»، ولعل في هذا القول مغالطة غربية تطرح حديثاً في لبنان وافدة إلينا من ثقافات دولة العولمة والنيوليبرالية الاقتصادية على يد خبراء البنك الدولي ووصفاتهم وتشكل افتئاتاً على مفهوم الضمان الاجتماعي وعلى مبدأ التكافل الاجتماعي بين قوى الانتاج الذين يقتطعون من أموالهم ودخولهم وثرواتهم مبالغ تتناسب وقدراتهم لتغطية المخاطر الاجتماعية التي تصيب المواطنين من أصحاب الدخل المحدود والفقراء والمعدمين الذين لا قدرة لهم على مجابهة هذه المخاطر مع التأكيد على ان التصدي لهذه المخاطر هو الطريق الأوسع لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تعود بالنفع على الانتاج وعوامله واستقراره وازدهاره وتقدمه من دون ان تكون عبئاً ثقيلاً على الانتاج وعوامله كما يدعون.
6ـ بقي أن نشير أخيراً إلى ان هذا المشروع/النظام ينص على الانتقال بنظم التأمينات الصحية العامة القائمة حاليا والنظم التأمينية شبه العامة»، إلى نظام تأميني واحد يحل محلها جميعاً ويكون في إطار الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بالتزامن مع إصلاحه وتمكينه؟!
إننا نرى في ذلك طموحاً يسابق الخيال، فلقد مضى ذلك الوقت الذي كان يمكن فيه توحيد هذه المؤسسات المعنية في مؤسسة تأمينية عامة واحدة لتتولى إدارة وتنفيذ نظام ضمان صحي شامل لجميع المواطنين اللبنانيين كيفما كانت فئاتهم وحيثما كانت مواقعهم الوظيفية والخدمية. فعلى طريق هذه المؤسسات واحدة بعد أخرى نشأت منافع وتقديمات متباينة ومصادر تمويل مختلفة ومعدلات اشتراك متعددة ونشأت معها هيكليات وصلاحيات وعلاقات ومراكز قوى عديدة سوف تحافظ على مواقعها بالنواجز، مما يستحيل معه إجراء مثل هذه التوحيد مهما بلغ تعاظم النوايا الحسنة عند العديد من المراجع المسؤولة وعلى رأسها نوايا وزير العمل شربل نحاس.
إن كل ما بتنا نطمح إليه في هذا المجال، هو إنشاء مجلس أعلى يضم جميع هذه المؤسسات التأمينية العامة وشبه العامة بحيث يتولى الإشراف على هذه المؤسسات وإجراء المفاوضات باسمها مع سائر أطراف العلاقة المعنية بالصحة في لبنان.
أما فرع ضمان المرض والأمومة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فيبقى مسؤولاً عن إدارة وتنفيذ نظام ضمان المرض والأمومة الحالي كما هو منصوص عليه في قانون الضمان الاجتماعي بعد ضم جميع فئات المواطنين اللبنانيين الذين ما زالوا حتى الآن خارج أي تغطية صحية إلزامية، على ان يتوافق ذلك طبعاً مع إصلاح وتصويب أوضاع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والحفاظ على نظام الضمان الاجتماعي بكافة فروعه الحالية والمستجدة واعتباره المعبّر الوحيد عن دولة الرعاية الاجتماعية وعن هذا العقد الاجتماعي الفريد القائم بين قوى الانتاج والغاء كل النصوص القانونية التي تنال من هذه المؤسسة ووحدتها وتشكل خطراً على ديمومتها ووجودها ولا سيما منها القانون رقم 18 تاريخ 5/9/2008 المتعلق بإنشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس ومناشدة وزير العمل شربل نحاس سحب مشروعه من التداول وطي صفحته نهائياً تقديراً منا لمناقبيته واعتزازاً بمسيرته وخوفاً من يوم يأتي يقال فيه: ان مشروعه كان حلقة في سلسلة من حلقات تهدف إلى حل وتصفية الضمان الاجتماعي اللبناني لصالح قيم ومفاهيم العولمة والنيوليبرالية الاقتصادية لاسيما وان وصفات البنك الدولي وخبرائه وحماستهم لهذا المشروع تبدو جلية وواضحة في سطوره.
([) المدير السابق لضمان المرض والأمومة
في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي