في ظلّ الوضع الاقتصادي القائم، وما يحكى عن نسب البطالة، مقنّعة كانت أو غير مقنّعة، تقدّم دراسة الباحثة نهى بيومي: "تجربة النجاح المهني والمالي لدى الشابات اللبنانيات" صورة مشعة عن شريحة من اللبنانيات، تمكنّ بفعل المثابرة والإيمان بالذات، من أن يصنعن لأنفسهن مكاناً في المجتمع.
وانطلقت بيومي في دراستها الميدانية التي موّلها "المجلس الوطني للبحوث العلمية" من مسألتين أساسيتين. الأولى تتلخص بأن الحرب الأهلية اللبنانية "أحدثت تغييرات ثقافية، اجتماعية واقتصادية، كان من نتائجها تشدّد الأهل المتعلّمين في تأمين أوضاع بناتهنّ من اهتزازات الوضع الأمني والاقتصادي في لبنان عن طريق التعلّم في أفضل المدارس والجامعات الخاصة". أما الثانية فتقوم على اعتبار أن الدولة اللبنانية "تباطأت في إعطائهن الحقوق كاملة، وفوّضت شؤونهن الأسرية إلى طوائفهن، وغيّبن عملياً عن السياسة. لذلك هجرنها ولم يراهنّ عليها، بل تعلّمن الاتكال على أنفسهن والاهتمام ببناء قدراتهن، حتى صرن بارزات علمياً وثقافياً ومهنياً كأفراد وليس كجماعات ضغط إلا في ما ندر".
وأشارت بيومي في مستهلّ الدراسة إلى أن الثقافة الذكورية السائدة، لا سيما في مستوى التشغيل والأجور، بالإضافة إلى قوانين العمل والأحوال الشخصية، أدّت إلى انحياز الشابات إلى الأعمال الحرّة، (فأسسن مؤسساتهن الصغيرة)، كما إلى اختيارهن العمل في مؤسسات دولية وخاصة تكون أكثر مراعاة لعدم التمييز الجندري.
وعلى الرغم من سيطرتهن على بعض القطاعات، كالتربية والتمريض، إلا أنهن بقين بمنأى عن ان يتبوأن المراكز القيادية فيها أو حتى الحصول على أجر مساوِ لزملائهن من الرجال.
وانطلاقاً من كل ما سبق، حاولت بيومي تقصي أسباب النجاح المهني والمالي لخمس عشرة شابة في العشرينات والثلاثينات وست سيدات في الأربعين والخمسين من العمر. فوجدت أنها تعود إلى ثلاث مؤسسات: الأسرة والمؤسسات التعليمية ومؤسسات العمل. كما "كانت علاقتهن بالسلطة عاملا من عوامل نجاحهن المهني والمالي"، كما تلفت بيومي، إلى أنه "ليس لديهن مشكلة مع السلطة عموماً ويتعاملن مع رموزها براحة بدون قلق على مركزهن ومالهن وموقعهن، كما أنها لا تشكل تحدياً لكفاءاتهن".
وقد قسمّت الدراسة إلى سبعة أبواب، عنوانها الرئيسي المال. فتبيّن في الباب الأول الذي يعالج دلالات المال بالنسبة للشابات، أنهن يرين في المال "وسيلة لحياة أفضل"، ومصدراً للأمان الداخلي، والاستقرار النفسي والحرية. إلا أن المال برأيهن لا يؤمن الا سعادة "موقتة" كما وجدت الباحثة في الباب الثاني. وذلك على الرغم من أنه عامل من عوامل السلطة "من دون أن يشكل سلطة بحدّ ذاته".
وقد جزمت غالبية اللواتي شملهن البحث بأن العمل هو الأهم، وذلك لأسباب مختلفة أبرزها أنه يؤمن الاستقرار. الا أنهن تمايزن في مسألة التخطيط المالي والادخار والاستثمار. فتبيّن للباحثة أن أكثرهن تخطيطاً "هن صاحبات المؤسسات، لأن هناك تمازجاً بين هدفهن الذاتي وهدفهن المؤسسي". كما وجدت أن "مجموعة لا بأس بها من العينة" تستثمر أموالها الفائضة بطرق متعددة منها توسعة الأعمال ومنها شراء عينات عقارية.
وتعددت آراؤهن بالنسبة للاستهلاك ومتعته، فمنهن من رأين أن المزاج يؤدي دوره القوي في الشراء صعوداً وهبوطاً، فيما اعتبرت أخريات أن "الأناقة هي عدة مهنية" أو في حدّه الأقصى "مكافأة على جهودهن".
أما بالنسبة لعلاقة المال بحياتهن الخاصة، فأشارت الدراسة إلى أن المستجوبات العازبات ينتقين أزواجهن المستقبليين على أساس الحبّ والإعجاب والاستقلالية. إذ لا دور للمال في اختيار الشريك.
كما تبيّن على صعيد آخر أن المتزوجات منهن يساهمن مالياً في أسرهن، إما بشكل عفوي أو باعتماد تقاسم المهام المادية مع الشريك.
في نهاية الدراسة، توصّلت الباحثة إلى خلاصات عدة، أولاها أن أولئك الشابات لا يعشن "الخوف والتردد من هويتهن الأنثوية، وأنهن قادرات بدعم كبير من أهلن على إثبات ميولهن وقدراتهن". لكنهن لم يتمكنّ بعد من قلب أبوية الأعمال على الرغم من تموضعهن في قلب الحركة الاقتصادية.
ولفتت إلى أنهن أكثر طموحاً من أهلهن، علماً بأن "تفضيل الأهل أولادهم على أنفسهم أنتج هذه النماذج من الشابات الناجحات. لذلك نرى أن دور الأخلاق كبير في نجاحهن" كما تؤكّد الباحثة، لتختم بأن "نظام القيم الموروثة يتعرّض للتحولات في لبنان، وهو ما زال بعيداً عن التشكّل النهائي، بل هو في مرحلة التوتر والتراوح والتجديد في الوقت نفسه، حيث ان الانتماءات المتعددة حاضرة: الهوية الاجتماعية والتفاوض على الفردانية