ينوء قطاع التعليم الرسمي الأساسي في منطقة راشيا، تحت عبء المشاكل المتنوعة، تحوّل إلى قطاع مترهل محكوم بمصير محتوم، قد يؤدي به إلى الإقفال التام، بعدما فقد الكثير من قدراته وميزاته الدافعة التي أثبتت جدارتها في إنهاض المسيرة التربوية طيلة عقود. ويأتي فقدان الثقة بالمدرسة الرسمية، نتيجة لأسباب عديدة قد يكون من أهمها تراكم المشاكل وتفاقم الممارسات التي تعود إلى زمن الحروب، التي عصفت بلبنان على مدى ثلاثين عاما، حيث تحوّلت المدرسة إلى مسرح للمناكفات الحزبية، وواحة للتجاذبات السياسية، ما جعلها تغرق في الفوضى والتسرب، ولم يشفع لها السلم الأهلي، باستعادة دورها الذي سلبته منها المدرسة الخاصة، بسبب غياب الرقابة من جهة واستمرارالتدخلات السياسية والحزبية من جهة ثانية، إلى جانب الروتين الإداري وترهل الجسم التعليمي، وعدم اللحاق بالتطور العلمي الذي يتلاءم وروح العصر.
وليس من الجائز تبرئة ساحة الدولة من تلك الجريمة البشعة، التي اقترفتها عن سابق تصور وتصميم، من خلال تصويب رصاصة الرحمة على رأس المدرسة الرسمية، حيث أغرقتها في حالة موت سريري، لا خلاص لها منه سوى بإنشاء غرفة للعناية المركزة، مجهزة بتقنيات حديثة، ويديرها جهاز متخصص، يعمل على استئصال السياسات العشوائية.
وأدت تلك السياسات إلى تحجيم دور المدرسة الرسمية، وتراجع مستواها، لا سيما في مرحلتي الروضات، والتعليم الأساسي، ما خلق نوعا من التململ في صفوف الأهالي، الذين حملوا أبناءهم إلى المدرسة الخاصة، على الرغم من الدعم المالي والمعنوي الذي تلقته من المجالس البلدية ومجالس الأهل، إلا أن بعضها واجه مصيرا محتوماً بالإقفال، في الوقت الذي صمدت فيه مدارس أخرى، فأثبتت جدارتها ونجاحها وتميزها حتى على المدارس الخاصة، التي استغلت الوضع المتعثر، ففرّخت تحت عناوين دينية، وحزبية، ومناطقية، بدعم من المتنفذين والمتمولين وبعض رجال السياسة، مستقطبة الآلاف من الطلاب.
مقابل إقفال بعض المدارس، وتعثر وتراجع أخرى، فإن بعضاً منها حافظ على دوره المتميز، واستطاع تحقيق نجاحات باهرة لم تقاربها المدارس الخاصة، من خلال نسب النجاح التي لامست الـ 98 في المئة في الامتحانات الرسمية، ونسب التقدير والتفوق المحققة في مدارس عيحا، كفرقوق، كوكبا، الرفيد، البيرة، وعزة وغيرها.
وتخوفت المربية المتقاعدة وجدان دهام، من واقع التعليم الأساسي الرسمي المتوسط والابتدائي القائم في منطقة راشيا، ومن أن يلقى «التعليم المصير المحتوم بالإقفال الكامل»، عازية الأسباب إلى «فقدان الثقة بالمدرسة الرسمية، التي تحملت أعباء وتراكمات ومشاكل جمة، نتيجة ما تعرضت له من تجاذبات وممارسات إبان الحرب الأهلية التي مزقت لبنان ونالت من مؤسساته الرسمية وغير الرسمية»، مؤكدة أن «المدرسة تحوّلت إلى واحات للتعقيدات السياسية، ومسرح للخلافات الحزبية، ما أدى إلى انتشار الفوضى والتسرب المدرسي». ولفتت إلى أن تلك الصفة «لازمت سنوات السلم الأهلي، نتيجة تقاعس مؤسسات الرقابة عن دورها، إلى جانب ترسخ الروتين الإداري القائم والترهل الذي اصاب الكادر التعليمي والإداري». وسجلت دهام بعض المحاولات التي أرادت منها الدولة، تغيير الواقع القائم نحو الأفضل، إلا أنها كما، قالت: «لم تكن في المستوى المطلوب، وظلت قاصرة عن ملامسة وضع الإصبع على الجرح ووصف العلاجات الناجعة للخروج من الجسم المليء بالأدران والأورام الخبيثة، التي تتطلب استئصالاً»، مشيرة إلى «محاولة الدولة فتح دور للمعلمين، وتغيير بعض المناهج المتلائمة وروح العصر وتطوره، من أجل بعث الروح من جديد في شرايين القطاع، إلا أن التعليم الأساسي الرسمي في راشيا ظل على حاله، تكتنفه العثرات وتنال منه التراجعات، باستثناء بعض المدارس التي أثبتت جدارتها وتفوقها».
ولم تبرئ دهام ساحة الدولة من تلك «الجريمة البشعة» كما وصفتها، وقالت: «إن سياسات الدولة العشوائية، وبدعة ما يعرف «بالمنحة المدرسية»، المعطاة للموظفين في السلكين المدني والعسكري، نسفت التعليم الرسمي، ودمرت بنيته وهيكليته، ما حمل الأهالي للتوجه نحو التعليم الخاص، لتعليم أبنائهم تحت شعارات وعناوين مختلفة ومتنوعة، منهم من ابتغى الربح من فارق الأقساط، ومنهم من بُهر بالعناوين البراقة الخالية من المضامين الحقيقية، لا سيما إذا ما علمنا ان الغالبية العظمى من معلمي المدارس الخاصة هم من حملة الشهادات الثانوية وما دون، ويغيب عنهم التخصص والتدريب، في مقابل معلمين في القطاع الرسمي يحملون المؤهلات العلمية والتخصصية».
ووصفت دهام «تفريخ المدارس الخاصة في منطقة راشيا»، بـ «الظاهرة غير الصحية»، معللة الأسباب بـ«مشروعية طرح الأسئلة التي تتناول كيفية مراقبة المدارس الخاصة؟ ومن يراقبها؟ وما هي مضامين المناهج التي تعتمدها؟ وسبل وطرق التعليم فيها؟»، لافتة إلى أن كثيراً من تلك المدارس «تفتقد المنهج والإدارة الفاعلة والقادرة والخطة التربوية، لا بل أكثر من ذلك من يعرف حدود التنشئة والتربية المتبعة فيها، وهل هي تقدّس الطائفة أو المذهب أو الدين؟ أو أنها تدفع باتجاه أحادية الحزب والرأي والمعتقد؟ أم انها تحثّ على وحدانية القائد وتأييد التزلم، على حساب الوطن والوطنية والمواطنة!». وقالت: «كل تلك الطروحات تستحق من المسؤولين المعنيين، أجوبة حيّة وصادقة خالية من الزغل، وليس مطولات ووجهات نظر وتنظيرات تميع الأهداف والمقاصد الحقيقية!».
ولفت المربي المتقاعد أسعد الساحلي إلى المفارقة الأليمة المتمثلة بالصروح والمجمعات التعليمية المقفلة، المنتصبة كـ«أصنام متروكة، تصارع الصمت المدوي، تستغيث روادها المفترضين من المعلمين والطلاب، بعدما تحوّلت إلى أوكار للجرذان، وإلى جحور للحشرات والزواحف»، مشدداً على «إلزامية فتح المؤسسات التربوية الرسمية المقفلة، ورفدها بالطاقات والكوادر البشرية الإدارية والعلمية من ذوي الخبرة والاختصاص، فالكشف عن المعرفة يتطلب معلماً يحفز على فهمها من خلال أساليب واستراتيجيات وقواعد منتجة ومدروسة». ودعا الدولة إلى «إيلاء المناطق الريفية الاهتمام والرعاية، المتفلتة من كل معايير السياسات الضيقة والمحسوبيات العقيمة والمحاصصات المدمرة، باعتبار أن المواطن لا يستطيع المقامرة بمستقبل أولاده». وأكد الساحلي أن «العملية التعليمية لا تنجح إلا من خلال توفير كل مكوناتها الأساسية من إداريين ناشطين، وتربويين متخصصين، ومناهج ومسائل متطورة، وأبنية لائقة، ورقابة فاعلة وتفتيش مستمر، للوصول إلى سلة مشوقة، تستقر في ذاكرة التلميذ وتصقله بالعلم والمعرفة»، مشدداً على أهمية الثالوث الذهبي «المدرسة والأهل والتلميذ». وتناول الساحلي التعليم الثانوي الرسمي وواقعه في المنطقة، فقال: «على الرغم من كل التحديات والصعوبات، حافظت الثانويات على دورها المميز، مشكلة الواحات العلمية والمعرفية والثقافية، محققة النتائج العلمية الباهرة، منتجة نخباً من الطلاب وطلائع أجيال يمكن أن يعتدّ بها».
ولفت رئيس بلدية عين عطا طليع خضر إلى أن «متوسطة البلدة الرسمية مقفلة منذ أكثر من خمس سنوات، إنفاذاً لقرار صادر عن وزارة التربية، باعتبارها لم تكن مستوفية للشروط المعمول بها قانونياً، لجهة افتقادها لعدد التلامذة المطلوب، على الرغم من الدعم المادي والمعنوي، الذي تلقته من المجالس البلدية السابقة ومجالس الأهل»، مشيرا إلى أن «نحو 400 تلميذ وتلميذة في مراحل التعليم كافة من أبناء البلدة، يتلقون العلم إما في المدارس الخاصة، او في الثانويات الرسمية، أو في الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة»، كاشفاً عن «نسبة ليست قليلة من الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين الـ 15 و22 عاماً، قد تركوا مدارسهم، منهم من التحق بالخدمة العسكرية ومنهم من يفتش عن عمل في لبنان أو في الخارج». وأكد خضر أن «ما ينطبق على مدرسة عين عطا لجهة الإقفال والتسرب المدرسي، ينطبق أيضا على قرى عديدة في المنطقة»، متسائلاً عن «الصروح التربوية التي بنيت حديثاً في عين عطا وفي العديد من قرى المنطقة، من دون أن يتم تدشينها».
وتبين الإحصاءات الميدانية أن ثماني مدارس رسمية في منطقة راشيا مقفلة، إنفاذاً لقرار وزارة التربية من أصل 26 مدرسة، والمدارس المقفلة هي، عين عطا، وعين حرشا، وبيت لهيا، وكفرمشكي، وراشيا، وعيثا الفخار، وحلوى، والعقبة. ومن بين المدارس القائمة هناك ثلاث عشرة مدرسة، لا يتعدى عدد تلاميذها مجتمعة 940 تلميذا، بنسبة قد لا تتعدى 75 تلميذاً للمدرسة الواحدة، مقابل 176 معلماً في الملاك، وثمانين متعاقداً، أي ما مجموعه (256 معلماً)، ما يعني أن لكل معلم واحد أربعة تلاميذ، بينما هناك أربعة مدارس هي، عيحا، وكفرقوق، وكوكبا، والرفيد، تضم 1350 تلميذا، بنسبة 340 تلميذاً للمدرسة الواحدة، مقابل 96 معلماً في الملاك و74 في التعاقد، أي ما مجموعه 170 معلما، ما يعني ان لكل معلم ثمانية تلاميذ.
بينما استقطبت خمس مدارس خاصة نحو 5500 تلميذ في جميع مراحل التعليم من الروضة حتى الثانوي، في حين أن أربع مدارس أخرى استقطبت نحو ألف تلميذ. ولا بد من الإشارة إلى أن نسبة 80 في المئة من الأبنية المدرسية الرسمية هي في حال جيدة، إنما بعض تلك المدارس تفتقر إلى أساتذة المعلوماتية الإدارية، ووسائل الإيضاح، والمختبرات والمكاتب والمفروشات، وفي المقابل هناك أربعة صروح مدرسية منشأة حديثاً، ما تزال غير مشغولة.(السفير 14كانون الأول2011)