تراجع الإقبال على المدارس الرسمية في لبنان يستوجب خطة سريعة لاستنهاضها

إن ما يحكم جودة أي نظام تعليمي، ليس التعليم بحد ذاته، بل مصداقية التعليم في واقعه الاجتماعي، وقدرته على مواجهة المتغيرات المتسارعة، وبناء المستقبل، من هنا يقع التعليم الرسمي في دائرة الخطر، وتبقى المعالجات أقل من المطلوب للنهوض به، واستدراك ما فاته جراء الإهمال المتعمد، وغير المتعمد. ويحتاج إلى أكثر من خطة تربوية توضع على الورق لإحداث النهوض، وقبل كل شيء يحتاج إلى نظرة جديدة، ومفهوم إداري متغير، ونظام مرن، يكون قادرا على تمكين المتعلم من التعلم أكثر من تخزينه المعلومات أو تدريبه على مهارات بعينها. وأفضل ما يمكن وصف واقع التعليم الرسمي في لبنان بأنه يعاني من أزمة طويلة متراكمة على مدى سنوات، ومرد ذلك إلى الإهمال والمعالجات غير المدروسة والتي أدت إلى تراجع ملحوظ في نسب التلامذة المسجلين في المدارس الرسمية، ولأسباب مختلفة، أهمها الترهل الحاصل في جسم الهيئة التعليمية، وغياب الإدارة الفاعلة، وغياب «مبدأ الثواب والعقاب»، فضلا عن عدم الاهتمام بتدريس مادة اللغة الانكليزية، كمادة أساسية على غرار تدريس اللغة الفرنسية.
وساهــمت كـثرة تحركات روابط المعـلمين فـي التعليم الرسمي للمطالـبة بحقوقـهم المهـدورة، إلى تراجـع فـي أعـداد الملتحـقين بالمدرسة الرسمية لتصل إلى 31 في المئة من مجـمل عدد التـلامذة. فبدل أن يعطى أفراد الهيئة التــعليمية الحـقوق، ليتـفرغوا للـتدريس، يتم دفعهم إلى التحرك النـقابي، إضراباً واعتــصاماً وتظــاهراً، ومــن ثم يحصلون على جزء من حقوقهم، ما يؤدي إلى تعطيل الدراسة. ويدفع ذلك بالأهــالي إلى النأي عن المدرسة الرسمية، والتوجه نحو المدارس الخاصة غير المجانية، التي استفادت من جملة «التداعيات» التي تتـخبط فـيها المدرسة الرسمية، في الاستئـثار بالحــصة الكبيرة من التــلامذة لتصل الى نحو 55 في المئة. وتنــشر «السفـير» أرقاماً عن واقع المدرسة الرسمــية، ونــسب الالتحـاق بها، على أن يســتتبع بتحــقيقات ميدانيـة عــن واقـعها في مختلف المــناطق اللبـنانية، حيث تـبرز المـعاناة في الأرياف والقرى، مع تزايد في الإهمال، وإلقاء الحمل على البلديات.
أين الخطة التربوية؟

المطلوب من وزارة التربية للنهوض بالتعليم الرسمي كثير، إذا كانت الجدية هي العنصر الأساس، وليس المنفعة الشخصية لهذا الطرف أو ذاك. فالخطة التربوية التي سبق وأعلنها وزير التربية السابق حسن منيمنة، وأعاد وزير التربية الحالي حسان دياب، وضع إضافات عليها، وضعت الإصبع على الجرح، إلا أن الجرح ما زال بحاجة إلى عناية ومتابعة، بحيث لم تشهد المدارس الرسمية أي تحسن منذ الإعلان عن الخطة التربوية «الإنقاذية»، وبات السؤال المطروح أين هي هذه الخطة؟ ولماذا لم تعقد لها ورش العمل؟ ولماذا لم تُشرك الهيئات التعليمية فيها ومعها المجتمع المدني؟
أسئلة محقة، خصوصاً أن الأموال سبق ورصدت للخطة، إلا أنه لم يتم تعميم رياض الأطفال، ولا تطبيق إلزامية التعليم أو تطوير برامج وآليات دعم وضع الأدلة اللازمة لتنفيذ البرامج، أو إعداد وتطبيق ملف مدرسي لكل تلميذ معرض لخطر الإعادة، أو وضع آلية مراجعة دورية لتحصيل التلميذ. كما أن الإدارة المدرسية، بقيت على حالها والتي يفترض بها مراجعة وتعديل وتحديث الأطر التنظيمية للمدارس الرسمية، وتعديل الأنظمة الداخلية للمدارس وتعزيز دور مجالس الأهل، وتفعيل الأنشطة والأندية وتجربة وتقييم نموذج الإدارة المدرسية.
أما لجهة «تمهين التعليم والإدارة»، فبقيت الأمور على حالها كذلك، ولم يتم تطبيق وضع معايير وطنية مهنية للمعلم، وتصميم برنامج تنمية مهنية شامل ومستمر لمعلمي الملاك الرسمي. وقد تم تجاوز وضع المعايير والشروط الحديثة التي وضعت لتكليف المديرين في المؤسسات التربوية، من خلال استمرار الواسطة في عملية الاختيار. كما لم يتم استكمال وتنفيذ برنامج تنمية القيادة التربوية وتطويره وإجراء مراجعة لسلّم رواتب المعلمين، وتطوير آليات ترشيد وإعادة توزيع الكادر التعليم، بحيث بقيت المحسوبية هي التي تتحكم في هذه العملية، إضافة الى غياب نظام الحوافز والمساءلة.
صحيح أن مرحلة التعليم الأساسي في التعليم الرسمي، سعت إلى تحقيق استيعاب كامل الأولاد من الفئة العمرية من خمس الى 15 سنة، إلا أنها لم تستطع تأمين وسائل التعليم الكفيلة بالنهوض بالمدرسة الرسمية، في ظل وجود أعداد المعلمين من دون المطلوب أكاديميا وتربويا، وكذلك وضعهم المادي وصورتهم الاجتماعية، ما يؤدي إلى عزوف العناصر الجيدة عن مهنة التعليم في هذه المرحلة. أما مرحلة التعليم الثانوي، فقد عرفت نمواً مطّرداً نتيجة تحسن نسب النتائج التي حققتها الثانويات، إلا أنها شهدت في السنوات الأخيرة تراجعا في نسب عدد الطلاب الملتحقين بها.

دور وزارة التربية

يبلغ مجموع المؤسسات التربوية التابعة وذات الصلة بوزارة التربية والتعليم العالي، من مدارس ومعاهد وكليات ومراكز ومؤسسات في القطاعين العام والخاص 3500 مؤسسة، وعدد المعلمين والأساتذة العاملين في تلك المؤسسات 130 ألفاً، في حين يبلغ عدد المتعلمين الإجمالي الملتحقين بها مليوناً ومئتي ألف. ويتعاون مع الوزارة نحو 250 مؤسسة وجمعية أهلية وبلدية، ومن خلال المدارس والثانويات بمواضيع مشتركة تتناول المواطنة، والبيئة، والصحة، والكشافة، والمكتبات، والحاجات الخاصة، والدعم المدرسي. وبذلك تعتبر وزارة التربية والتعليم العالي من أكبر الوزارات في لبنان حجماً وموازنة، وهي مسؤولة مباشرة عن كل ما يتعلق بالتعليم الرسمي في مراحل الروضة، والتعليم الأساسي بحلقتيه، والثانوي، أي عن 1365 مدرسة وثانوية، بحسب إحصائيات «المركز التربوي للبحوث والإنماء» للعام 2010، وعن 38711 معلماً و285399 متعلماً. وهي مسؤولة كذلك عن التعليم المهني والتقني، الذي يضم 105 معاهد ومدارس فنية و12502 معلم، و37317 متعلماً. كما أن للوزارة حق الوصاية على «الجامعة اللبنانية» بفروعها، التي تزيد عن خمسين فرعا. وتضم 72813 طالبا وطالبة، وسبعة آلاف استاذ ومدرب، و1700 موظف. ولها الوصاية كذلك على «المركز التربوي للبحوث والإنماء»، الذي يضم 314 موظفا ويتولى تدريب ما معدله 15 ألف معلم سنويا.
وترعى الوزارة شؤون التعليم الخاص الذي يضم ما يزيد عن 1400 مدرسة وثانوية. ويشتمل على خمسين ألف معلم. وترعى كذلك المدارس والمعاهد الفنية الخاصة، والتي يبلغ عددها 351 مدرسة ومعهدا، ويعمل فيها سبعة آلاف أستاذ وإداري، كذلك الأمر بالنسبة الى التعليم العالي الخاص، الذي يبلغ عدد مؤسساته أربعين معهدا وجامعة، لها 42 فرعا على الأراضي اللبنانية، ويضم ما يزيد عن 110 آلاف طالب وطالبة.

توزع التلامذة والمعلمين

بلغ مجموع التلاميذ للسنة الدراسية 2010/2011 في جميع قطاعات التعليم في لبنان 937930 تلميذا، منهم 320059 تلميذا تابعا لمدارس «الاونروا» (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين). ويتوزع مجموع التلاميذ بالنسب المئوية على الشكل التالي: التعليم الرسمي 29.5 في المئة، والتعليم الخاص المجاني 13.4 في المئة، والتعليم الخاص غير المجاني 53.7 في المئة، والتعليم الخاص - «الاونروا» 3.4 في المئة. وتشكل الإناث ما نسبته 54.2 في المئة من التعليم الرسمي، والذكور 45.8 في المئة. أما في المدارس الخاصة المجانية فالإناث 48.2 في المئة، والذكور 51.8 في المئة، والنسبة متساوية في التعليم الخاص غير المجاني. وقد بلغ عدد تلاميذ التعليم الرسمي المتأخرين دراسياً (بحسب عمر التلميذ والمرحلة الدراسية التي يتعلم فيها) وفق أرقام «المركز التربوي» للعام 2010/2011، 55296 تلميذا من المجموع العام، البالغ 276119 تلميذا، أي بنسبة عشرين في المئة. كما بلغ عدد تلاميذ التعليم الرسمي المتأخرين سنتين وأكثر، 58289 تلميذا من المجموع العام، أي ما نسبته 21.1 في المئة، فيكون مجموع نسبة الطلاب المتأخرين 41.1 في المئة.
ويتركز التأخر الدراسي للتلامذة في المرحلة الابتدائية - التعليم الأساسي، حلقة أولى زائداً حلقة ثانية (مجموع نسبة التأخر الدراسي 39.2 في المئة). أما في المرحلة المتوسطة - الحلقة الثالثة 57 في المئة، والمرحلة الثانوية 42.6 في المئة.
وبلغ مجموع أفراد الهيئتين الإدارية والتعليمية التابعين للملاك والمتعاقدين في جميع قطاعات التعليم العام في لبنان 89794 معلما ومعلمة، موزعين كالتالي: التعليم الرسمي 37971 (أي 42.3 في المئة)، والتعليم الخاص المجاني 6750 (أي 7.5 في المئة)، والتعليم الخاص غير المجاني 43447 (أي 48.4 في المئة)، والتعليم الخاص - «الأونروا» 1626 (أي 1.8 في المئة).
أما لجهة تطور عدد التلامذة في القطاع التعليمي، فقد ارتفعت أعدادهم في التعليم العام ما قبل الجامعي من 899508 تلاميذ في العام الدراسي 2001/2002 إلى 909741 تلميذا في العام الدراسي 2009/2010، أي بزيادة 10233 تلميذا، ونسبة التزايد 1.14 في المئة. إلا أن حصة التعليم الرسمي من التلامذة كان يتناقص سنويا بصورة تدريجية إلى 31.4 في المئة سنة 2009/2010، بعدما كان يشكل 39 في المئة من مجموع تلامذة لبنان سنة 2001/2002. ويلاحظ أن المدرسة الخاصة شهدت تطورا ملحوظا في استقطاب التلامذة على حساب المدرسة الرسمية. وتؤكد دراسة «تطور المؤشرات التربوية» الصادرة عن «المركز التربوي للبحوث والإنماء»، أن المرحلة ما قبل الابتدائية تراجعت في القطاع الرسمي بنسبة 22.4 في المئة، ما عدا بيروت. كما سجلت الحلقات الثلاث من التعليم الأساسي تراجعاً على مستوى لبنان، وبالنسبة إلى المرحلة الثانوية فقد تأرجحت بين الزيادة والنقصان تبعا للمحافظات، وسجلت تراجعا عاما على مستوى لبنان بلغ ثلاثين في المئة.
فالنمو في القطاع الخاص يقابله تناقص في القطاع الرسمي. وذلك القطاع يحتاج إلى استراتيجيات التطوير والتخطيط للعمل على توافر ما يسهم في تحسين وتأمين نوعية تعليم جيدة، وهو بحد ذاته حاجة لا يمكن للمجتمع الأهلي الاستغناء عنها.

العثرات والأسباب

ويمكن تعداد بعض العثرات والأسباب التي تدفع الأهالي الى الابتعاد عن المدرسة الرسمية، ومنها، فقدان الثقة بها كرافد من روافد التعليم، خصوصا في مرحلة التعليم الأساسي والروضة. والحرب غير المعلنة التي تتعرض لها المدرسة الرسمية من قبل الكثير على الرغم من النجاحات والتفوق في الامتحانات الرسمية. وتحـول المدرسة الرسمية إلى مكان للتنفيعات، لجهة التعاقد، وأيضا المناقلات غير المدروسة للأساتذة والمعلمين وسط العام الدراسي، تلبية لرغبات المسؤولين السياسيين والحزبيين. وارتفاع نسب المتعاقدين، لا سيما في مرحلة التعليم الأساسي، وتحديدا في المناطق. وغياب المواد الإجرائية والأنشطة اللاصفية. وغياب الرقابة الفعلية والتفتيش التربوي الدوري على المدارس الرسمية. والاعتماد في تعيين مديري المدارس والنظار على الواسطة وفي حالات قليلة عبر التعيين تبعا للكفاءة. وعدم تطبيق مبدأ الثواب والعقاب. وعدم الاهتمام باللغات الأجنبية، عكس المدارس الخاصة.
ذلك بالإضافة إلى غياب اللغة في المدارس التي تدرس اللغة الإنكليزية (بيروت مدرسة واحدة)، و(البقاع - الهرمل مدرسة واحدة). كما أن نجاح العملية التعليمية يحتاج إلى إدارة نشيطة وتربويين متخصصين ووسائل إيضاح حديثة وأبنية لائقة ورقابة فاعلة، انتهاء بأن التعليم الثانوي الرسمي يعتمد على الهيئة التعليمية، من دون دعمه ومساندته.(السفير 13كانون الاول2011)