هل تريد الدولة للمركز التربوي للبحوث والإنماء أن يستمر؟ لا يبدو ذلك، بحسب المراقبين التربويين، وإلّا فما الذي يفسّر تغييب مجلس الأخصائيين والموافقة على هدر الأموال بإعادة التعاقد مع متقاعدين وبمبالغ خيالية؟
فاتن الحاج
قبل 40 عاماً، ولد المركز التربوي للبحوث والإنماء ليكون الدماغ المخطط للتربية بكل مكوّناتها من تعليم رسمي وخاص وخاص مجاني ومهني. يومها، جعل المرسوم 2356 الصادر في 10 كانون الأول 1971 من المركز مؤسسة عامة ذات شخصية معنوية تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، وترتبط مباشرة بوزير التربية الذي يمارس عليها سلطة الوصاية. استقلالية سمحت للمركز باللجوء إلى مجلس الوزراء عند حصول أي خلاف مع الوزير. وكان لافتاً هنا أن يستقيل وزيرا تربية في عهد الرئيس الأول للمركز وديع حداد هما هنري إده (أقيل) وإدوار حنين (استقال)، والسبب تدخلهما في شؤون المؤسسة وطريقة تنفيذ المشاريع. فالرجل، صاحب فكرة المركز ومؤسسه اشترط أن يرفع السياسيون يدهم عنه، وهكذا كان. لكن ذلك لم يدم طويلاً، فالطائف حصر اختيار «الرئيس» بوزير التربية، المسؤول الأول والأخير عن وزارته. وغالباً ما يأخذ ترشيح الوزير لرئيس المركز طابع الموْنة ومراعاة الخلفية السياسية التي ينتمي إليها. لم تكن تلك حال وزير التربية نجيب أبو حيدر الذي أُنشئ المركز على أيامه، فقد اقتنع بفكرة الفصل بين المخطط والمنفذ، وعرضها يومها على رئيس الجمهورية الراحل سليمان فرنجية الذي دعم عمل المركز إلى حدود قصوى.
هذا لا ينفي بقاء مفهوم المركز التربوي للبحوث والإنماء غامضاً لدى رجالات السياسة. البعض منهم تعاطى معه على أساس أنّه عالة على الوزارة، وكثيرون طالبوا بإلغائه. وغاب عن هؤلاء أن مثل هذا المركز يجب أن يكون أولوية لدى الوزارات والجامعات في العالم، على خلفية أنّ أهمية المؤسسات تقدّر بحجم الموازنة المعطاة للأبحاث فيها. لكن يبدو أنّ لغة الأرقام والمؤشرات والإحصاءات التربوية غير محبّبة لدى السياسيين لكونها تكشف الحقائق وتعرّي الواقع. كيف يقبل وزير التربية مثلاً، أن يعطى مؤشّر متوسط عدد التلامذة للمعلم الواحد في التعليم الرسمي 9 طلاب وأحياناً يصل إلى 5 طلاب؟ لماذا أصبح التعليم الرسمي يضم 35% من تلامذة لبنان؟ ماذا عن الهدر المقنّع في توزيع الأساتذة والمناقلات التي تتخذ طابعاً سياسياً؟ ماذا عن المال الذي يدفع في غير مكانه، فأكثر المشاريع تنفّذ بالتعاون مع منظمات دولية مثل الأونيسكو والبنك الدولي واليونيسيف والوكالة الأميركية للتنمية الدولية؟
وإذا كان السؤال عن مصير ملايين الدولارات التي صرفت في مشروع الإنماء التربوي المموّل من البنك الدولي مشروعاً، فإنّ السؤال الأبرز هو عن خلفية استمرار المركز في التعاقد مع مسؤولين خرجوا إلى التقاعد، إما عبر لجان مشاريع أو عقود بمبالغ خيالية. هؤلاء يداومون ويستخدمون المكاتب وكأنهم مسؤولون أصيلون، إذ لا يستطيع أحد أن يكسر لهم كلمة، على حد تعبير الموظفين. ويسأل هؤلاء، من المدير الإداري الفعلي الحالي أم السابق، لكون المدير الجديد ليس صاحب قرار ويقتصر دوره على مساءلة الموظفين عن الدوام ليس إلّا؟
ما هو الواقع الفعلي للمركز؟ مضى على تأسيس المركز التربوي 40 عاماً ازداد خلالها حجم العمل بسبب تطوّر المشاريع التربوية ونموّ متطلبات القطاع نمواً مطرداً مع تزايد عدد السكان الذي يراوح في لبنان بين 2.5% حداً أدنى و6% حداً أقصى، ما يرتب زيادة سنوية آلية في عدد المدارس والتلامذة والمعلمين ويضاعف مستلزمات العملية التربوية لا سيما على صعيد المهام الموكلة إلى المركز التربوي.
ومن الصعوبات، عدم الملاءمة أساساً بين حجم العمل المطلوب الناتج من المهام المحددة في المادة 4 من قانون إنشائه من جهة، والملاك الذي حدّد له بموجب الجدول رقم 1 الملحق بالمرسوم رقم 3087/72 من جهة ثانية، والذي يقتصر على 30 موظفاً فنياً و38 موظفاً إدارياً وهذا ما جعل المشترع في الأساس يلجأ عند تنظيم المركز إلى استدراك هذه الناحية، فجعل من المادة 28 من المرسوم رقم 3087/72 التي تحدد ملاك المركز مادة (مرنة) متحركة خاصة لجهة عدد الموظفين الفنيين فيه والعاملين في دور المعلمين والمعلمات.
إلى ذلك، لجأت إدارات المركز منذ تأسيسه، إلى الاستعانة بالمتعاقدين العاديين لتوفير مستلزمات المشاريع التربوية سنوياً، ما جعل عدد المتعاقدين الصادرين يزيد كثيراً على عدد الموظفين الدائمين، فضلاً عن وجود متعاقدين بالتراضي وعاملين بالفاتورة أو بأجر يومي قبل 1995 وما بعده لغاية 1998 واستمرارهم في الوضعية نفسها لغاية الآن. ثم إنّ هذه الإدارات لم تبتّ أوضاع وظيفية بقيت عالقة منذ سنوات طويلة. وهنا يسجّل مراقبون عدم وجود استقرار وظيفي لدى معظم العاملين في المركز، لكون معظم موظفي الملاك الفني الدائم هم من الموظفين الموضوعين خارج ملاكات التعليم أو الجامعة اللبنانية. وقد مضى على وجود بعض هؤلاء أكثر من 25 سنة، ويجري التجديد لهم سنوياً، ما يسبب إرباكاً للعمل في المركز.
أما اللافت، فما يقوله المراقبون لجهة ازدياد عدد المراكز الشاغرة نتيجة التسرّب الوظيفي لبلوغ السن القانونية، وقد طاول عدد الذين تركوا الخدمة ما بين عامي 2003 و2008 من بين العاملين في المركز 42 موظفاً ومتعاقداً وأجيراً. ويتحدثون عن حرمان موظفي المركز من ضمّ خدماتهم السابقة لغاية تاريخه أسوة بزملائهم في الإدارة العامة. كذلك فإن الموظفين لا يستفيدون من تقديمات تعاونية موظفي الدولة بعد بلوغ السن القانونية. وكان هؤلاء قد حرموا من التقدّم والترفيع بسبب صدور المرسوم الرقم 6787 تاريخ 20/5/1995 الذي رفع سقف التوظيف ودخول الملاك الدائم بنحو غير واقعي، وفرض التعليم الجامعي شرطاً أساسياً للتعيين في وظيفة أخصائي أو أخصائي مساعد في الوقت الذي لا يستطيع الموظف في المركز ممارسة التعليم في مؤسسات التعليم العالي خارج دوام عمله بسبب دوام العمل الإلزامي الذي يصل إلى 40 ساعة أسبوعياً، ما أفقده إمكانية اكتساب هذا الشرط وتمكينه من الترفع. ويلفت المراقبون إلى عدم بت ربط النزاع المقدم بموجب الملف المسجل في وزارة التربية تحت رقم 950/11 تاريخ 1/2/2000 من رئيس المركز والأخصائيين والأخصائيين المساعدين لجهة تعديل سلسلة الرواتب العائدة. ولا يغفلون الإشارة إلى تجاهل صلاحيات المركز في كثير من الأحيان، إن على صعيد التشريع التربوي أو الأعمال التربوية الواقعة ضمن اختصاصه، ما يؤثر سلباً على دوره. لكل هذه الأسباب، يقترح المراقبون بناء هيكلية جديدة للمركز تأخذ في الحسبان تجربة العمل فيه، وحجم المشاريع التي تنفّذ والمرتقب تنفيذها لاحقاً، على أن يجري التحسين على قاعدة مأسسة المشاريع المرتبطة بالتطوير التربوي المستمر. يكفي بالنسبة إليهم إلقاء نظرة متأنية وموضوعية إلى ظروف إنشاء المركز والسنوات التي قضاها من العام 1975 حتى اليوم لتأكيد استحالة بناء وطن من دون استراتيجية تربوية.
رئيس حاكم ومجلس غائب
من يقرر في المركز التربوي للبحوث والإنماء؟ في المبدأ هناك مجلس أخصائيين هو بمثابة مجلس إدارة يضم أربعة أعضاء ويرأسه رئيس المركز، أي حالياً د. ليلى مليحة فياض التي جدّد لها للمرة الثالثة (9 سنوات). وفياض اليوم الآمر الناهي لكونها تختصر بشخصها المجلس الموكل بمناقشة مشروع الموازنة وإقرارها، إقرار خطة العمل السنوية والأنظمة الداخلية والوحدات المرتبطة بأجهزة المركز، التعاقد مع المرشحين للعمل في مختلف النشاطات وفسخ التعاقد وتجديده عند اللزوم وترشيح ممثلي المركز في لجان التخطيط العام وقبول الاشتراك في المؤتمرات وترشيح ممثلي المركز إليها، إضافة إلى إقرار جميع المشاريع التربوية والإنمائية. ومن مهمات المجلس أيضاً إبداء الرأي وتعديل القوانين والأنظمة وبت الكتب المدرسية والمنشورات والوسائل التربوية لجهة تقرير اعتمادها في حقول التعليم. اللافت ما ينشره الموقع الالكتروني لجهة أنّ المجلس يتألف من رئيسة المركز والعضوين د. مارسيل أبي نادر ونزار غريب، والاثنان خرجا إلى التقاعد.(السفير12كانون الاول2011)