ثمة مشكلات عديدة ترخي بثقلها على الواقع التربوي الرسمي في طرابلس، وتنعكس سلباً على أكثر من 20 ألف طالب يتوزعون على 86 مدرسة، و12 ثانوية، ضمن نطاق طرابلس والميناء والقلمون، ومن أبرز تلك المشكلات، عشوائية مناقلات المعلمين التي بلغت حداً غير مسبوق، وتقليص صلاحيات «المنطقة التربوية»، وربط الأمور بالمدير العام للوزارة، وسوء الأبنية المدرسية، ونظام الدوامين الذي ما يزال معتمدا منذ نحو ثلاث سنوات لدى أربع مدارس، وتهميش دور لجان الأهل، وغياب الدعم البلدي، وعدم وجود دراسة متكاملة لواقع المدارس الرسمية، لتحديد الحاجات، وإيجاد السبل الكفيلة لتطويرها وتحويلها الى عامل جذب للطلاب.
قد لا يكون حلّ تلك المشكلات بالأمر الصعب في كثير من المناطق اللبنانية، لكن في طرابلس الواقع يختلف، خصوصاً في ظل الحرمان المزمن الذي تعانيه المدرسة الرسمية التي أدار وزراء التربية ظهورهم لها على مدار سنوات طويلة، والأزمات الاجتماعية والإنسانية التي تعانيها العاصمة الثانية، والتي تصنفها برامج الأمم المتحدة، على أساسها، كأسوأ مدينة على ساحل المتوسط، انطلاقا من سلسلة أرقام مخيفة تتعلق بنسبة 58 بالمئة من العائلات تحت خط الفقر، والبطالة 35 بالمئة من الشباب، لكن الأخطر في تلك الأرقام هو نسبة التسرب المدرسي، حيث تشير الدراسات الصادرة مؤخراً الى أن 57 بالمئة من الفئة العمرية التي تتراوح بين 14 و19 عاماً هي خارج أي تعليم تربوي أو مهني أو أكاديمي. وذلك يعني أنه بعد عقد أو عقدين من الزمن، فإن أكثر من نصف مجتمع المدينة سيعاني من الأمية، خصوصاً أنه وبحسب الأرقام، تصنف طرابلس ضمن المدن الشابة، حيث إن أكثر من 60 بالمئة من أبنائها هم تحت سن الـ 24 سنة، وذلك ينذر بكارثة تربوية في ظل نسب التسرب المرتفعة جداً، والتي تحتاج إلى إعلان حالة طوارئ في طرابلس، بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الواقع التربوي قبل فوات الأوان.
يشير واقع عدد من المدارس الرسمية في طرابلس إلى تعرضها لمجزرة في مناقلات المعلمين، حيث تم خلال الشهرين الماضيين تفريغ عدد لا يستهان به من المدارس من معلمي المواد الأساسية (الرياضيات، والعلوم، واللغة الأجنبية). وتلفت مصادر تربوية إلى «نقل 15 أستاذاً يعلمون تلك المواد إلى خارج طرابلس، من دون تأمين البديل، الذي وإن تم تأمينه فإنه لا يراعي حاجات تلك المدارس. ولا يغطي النقص الحاصل، حيث يتم إرسال أساتذة في مواد اللغة العربية، والتربية، والتاريخ، والجغرافيا، لتبقى حصص مواد الرياضيات واللغات والعلوم لـ«الفراغ»، فيمضيها الطلاب في الملعب»، الأمر الذي دفع عددا من لجان الأهل إلى القيام بتحركات واعتصامات أمام المدارس احتجاجا على سوء معاملة مدارس طرابلس من قبل الوزارة وعدم تأمين أساتذة المواد الاساسية. وتشير المصادر إلى أنه «جرى مؤخرا تعيين 53 أستاذ متعاقداً في قضاءي الكورة والبترون، من دون أن تراعى حاجات طرابلس، التي تبقى مدارسها تعاني من عدم التوازن في أساتذتها، في وقت تقف فيه المنطقة التربوية عاجزة أمام ما يحصل بعدما تعطلت صلاحياتها لمصلحة مدير عام الوزارة»، لذلك فإن كثيرا من مجالس الاهل تطالب بعودة صلاحيات المناقلات إلى المنطقة التربوية كونها الأدرى بحاجات المدارس الرسمية، والقادرة على إحداث التوازن ضمن مدارس الشمال كافة، «فلا يجوز أن يكون عدد الأساتذة في بعض مدارس الأقضية الشمالية أكثر من عدد الطلاب، ولا يجوز ان يجتمع أكثر من خمسة أساتذة رياضيات لمرحلة تربوية واحدة في وقت تعاني فيه طرابلس من نقص حاد في الأساتذة أكانوا في الملاك أم في التعاقد، بشكل يعطل العملية التربوية برمتها»، وفق المصادر.
ويأتي سوء أحوال الأبنية المدرسية ليزيد الطين بلة ويضاعف من الأزمة التربوية، فأكثر من ثلثي مدارس طرابلس وجوارها مستأجرة وهي مبان قديمة مرّ عليها الزمن وتعاني من الاكتظاظ (أكثر من 30 تلميذا في الصف الواحد)، ولا تتوفر في أكثرها الشروط الصحية، لا سيما على صعيد النشّ والرطوبة، وسوء المراحيض، وعدم سلامة مياه الشفة، واهتراء شبكات البنى التحتية، في وقت لا تتمكن فيه لجان الأهل من إجراء التلزيمات للقيام بأعمال الصيانة، وتقف بلدية طرابلس عاجزة أمام معالجة مثل هذه الامور الملحة بسبب الخلافات التي تعطل عمل مجلسها البلدي. كما تستمر مدارس «الجديدة» و«فرح انطون» و«ميّ»، في اعتماد الدوامين. وذلك بسبب إعادة بناء وتوسيع المدرسة الجديدة، التي طال مشروع تنفيذها من دون مبررات وكان من المفترض أن تسلم وتوضع في الخدمة خلال الموسم الدراسي الحالي أو مطلع الموسم الجديد، إذا لم تظهر عراقيل جديدة، ومنذ ثلاث سنوات يحلّ طلاب «الجديدة» و«فرح أنطون» ضيوفا على مدرسة «ميّ»، التي تتعلم طالباتها من السابعة والنصف صباحا حتى الحادية عشرة والنصف ظهراً، ثم يدخل إليها طلاب المدرستين الأخريين، ليتعلموا من الثانية عشرة ظهرا ولغاية الرابعة بعد الظهر.
ويمكن القول إن بلدية طرابلس غابت في السنة الحالية عن تقديم أي دعم للمدرسة الرسمية بفعل الخلافات المستفحلة في مجلسها البلدي، الذي قرر صرف مبلغ من المال للمساعدة في شراء القرطاسية للطلاب وتسجيل من لم تسمح ظروف عائلته المالية بتسجيله، لكن التجاذبات حالت دون صرفها. وهي كانت تبرعت في الموسم الماضي بمبلغ 14 مليون ليرة لدفع 50 بالمئة من رسوم التسجيل، عن نحو 700 طالب، أما مساهمة البلديات في أعوام سابقة فكانت تتراوح ما بين 50 و70 مليون ليرة لبنانية، ذلك بالاضافة إلى غياب ورش البلدية عن القيام ببعض الشؤون البيئية وأعمال الصيانة، بسبب توقف صرف الاعتمادات التي توقفت بسبب الخلافات البلدية.
أما التسجيل المجاني فاقتصر في العام الحالي على مكتب النائب روبير فاضل، الذي دفع رسوم التسجيل عن أكثر من ثلاثة آلاف طالب من العائلات الفقيرة المنتشرة في مختلف مناطق وأحياء طرابلس. في غضون ذلك يقتصر دور مجالس الأهل في المدارس الرسمية على الإشراف على الموازنة، وتأمين المتطلبات التي تحتاجها المدرسة، في حين يتعطل دورها في ما يخص العملية التربوية والمناهج، بسبب عدم سماح معظم المدراء لها بالتدخل في ما يعتبرونه من صلاحياتهم، في حين تم تعديل المادة 32 من نظام لجان الأهل، التي تدعو إلى إنشاء هيئة استشارية عليا توحد مجالس الأهل. وتلك الهيئة يشهد لها الجميع في محافظة الشمال بكثير من الإنجازات خلال السنوات السابقة، لا سيما على صعيد الضغط في إقرار مجانية التسجيل، ونقل معاناة المدارس الرسمية إلى مواقع القرار، فجرى تعطيلها مؤخراً في عهد الوزير حسن منيمنة، وذلك في خطوة تشير إلى أن وزارة التربية لا تريد أن تعمل لجان الأهل ضمن بوتقة واحدة، للتخلص من الضغط الذي كانت تمارسه عليها في كثير من الاستحقاقات.
وفي ذلك الإطار ينتقد رئيس «الهيئة العليا لمجالس الأهل» عبد الحميد عطية ذلك القرار، كاشفا أنه «بعد فقدان الأمل بإعادة إحياء الهيئة، تم إنشاء جمعية حصلت على العلم والخبر تحت اسم «مجالس الخير»، وهي ستضم كل مجالس الأهل، وذلك لتكون صمام أمان للمدرسة الرسمية وطلابها، وإبعادهم عن فكرة إنشاء الروابط والاتحادات التي تحاول الأحزاب السياسية والتيارات الطائفية السيطرة عليها»، لافتا إلى أن «الجمعية جاءت لتعيد توحيد كلمة لجان الأهل، وهي ستمسك بالملف التربوي الطرابلسي أكثر فأكثر، بعد تحررها من ضوابط أنظمة لجان الأهل»، داعيا وزير التربية حسان دياب إلى «الالتفات إلى الواقع التربوي في مدينة طرابلس، وأن يفسح في المجال أمام لجان الأهل لعرض مشكلاتها، وأن يعيد العمل بالهيئة الاستشارية العليا لمجالس الأهل، وأن يسارع إلى وضع استراتيجية للتعليم الرسمي في طرابلس، تنفذ على مراحل لإنقاذ المدرسة الرسمية التي تتجه من سيئ إلى أسوأ».
ويقول عطية: «إن الواقع التربوي في طرابلس ليس بخير، بل هو في خطر شديد، والمسؤولية تقع على عاتق الجميع، فلا يجوز أن تفرغ مدارسنا من الأساتذة، فيما تعاني مدارس أخرى خارج طرابلس من تخمة في الأساتذة، ولا يجوز أن يدير أحد ظهره لواقعنا التربوي المتردي»، محملاً دياب المسؤولية، مطالبا إياه «بعقد ورشة عمل تربوية مع مدراء المدارس ولجان الأهل في طرابلس للوصول إلى الأهداف المرجوة».
من جهتها، تشير مصادر «المنطقة التربوية» إلى أنها «تتابع كل شؤون المدارس، وترفع التقارير إلى الوزارة بالحاجات والمطالب، وتعمل على تذليل العديد من العقبات التي تواجه تلك المدارس»، مشددة على «ضرورة فتح ملفات عدد من المدارس، التي تحتاج الى إعادة تأهيل، لا سيما على صعيد الأبنية»، معترفة بأن «المناقلات التي جرت من دون مراعاة التوازن التربوي، أدت إلى تفريغ عدد من تلك المدارس من أساتذة المواد التعليمية الأساسية».(السفير 6 كانون الثاني2012)