مدارس البقاع الشمالي: بين الإهمال المزمن والمعاناة اليومية والتهديد بالإقفال

يتضح من سياسة الحكومات المتعاقبة، والقوى السياسية والحزبية في لبنان، أن لديها توجها واضحا يستهدف المدرسة الرسمية، ويسعى لإغلاقها من خلال التعاطي السلبي مع واقعها وحاجياتها، لمصلحة التوجهات التربوية الفئوية. ولا تُجرّ الاتهامات جزافا، فالأرقام والوقائع تتحدث عن تلك السياسة. فقد اتخذت وزير التربية السابق قرارا بإقفال المدارس المتعثرة الابتدائية والمتوسطة التي لا يزيد عدد تلامذتها على 75 تلميذاً، ثم عدل بعدها إلى 100 تلميذ، من دون دراسة موقع المدرسة وطبيعة القرية وعديد تلامذتها، لا بل ساوى القرار المدينة بالقرى النائية. لم تسأل في حينها وزارة التربية عن أسباب تقلص عدد التلامذة ومن المسؤول عن ذلك؟ متجاوزة سياسة المحاسبة السلبية منها أو الإيجابية، كما انعدم في تلك السياسة مبدأ الثواب والعقاب، وساوت بين مدرس ناجح وآخر فاشل، ولم تفتش دوائر الوزارة عن النقص في معلمي المواد الأساسية، حيث تركت الكثير من المدارس خالية من «معلمي اختصاص».
وأدى ذلك إلى تراجع في عدد المدارس الرسمية في محافظة بعلبك الهرمل من 142 مدرسة إلى 89 مدرسة (70 مدرسة في قضاء بعلبك، و19 مدرسة في قضاء الهرمل)، بعدما تم إقفال 53 مدرسة خلال السنوات الأخيرة، أي ما نسبته 37 في المئة. وإذا ما استمرت سياسة إقفال المدارس المتعثرة فإن 51 مدرسة رسمية في منطقة بعلبك - الهرمل ستقفل، وفقا لتناقص عدد تلامذتها الذي يسرع فيه قرار الدمج في الصفوف، حيث يُدمج صفان أو ثلاثة في غرفة واحدة. فقرار وزارة التربية ينص على عدم فتح صف مستقل للحلقة الأولى ما دون عشرة تلامذة، وفي الحلقتين الثانية والثالثة 15 تلميذاً، وإذا كان عدد تلامذة الصف الثامن 13 تلميذا يدمج حكما إما مع الصف التاسع أو السابع! وقد شهد العام الحالي إقفال مدرستين في اليمونة والصوانية، بسبب تقلص عدد التلامذة.
كما شهدت مدارس بعلبك - الهرمل تراجعا كبيرا في أعداد التلامذة من ثلاثين ألفا في نهاية العام ألفين إلى ثمانية آلاف في العام 2010-2011. ومن أسباب ذلك التوجه نحو المدارس الخاصة أو «الخاصة المجانية»، نظراً لغياب تعليم اللغة الانكليزية في معظم المدارس الرسمية. فمن بلدة مقنة شمال مدينة بعلبك، حتى بلدة القاع على الحدود السورية، توجد مدرسة واحدة تعلم اللغة الانكليزية. وتشهد نقصا في معلمي اللغة الانكليزية، ما أدى إلى تضاعف عدد تلامذة مدرسة خاصة في بلدة التوفيقية.
وتظهر سياسة الدولة تجاه المدرسة الرسمية، مدى الإهمال الذي تعانيه، فحتى تاريخه لم تدفع وزارتا المالية والتربية حقوق المدارس من رسوم التسجيل المدرسية عن الأعوام السابقة، باستثناء ما قرره مجلس الوزراء في 23 تشرين الثاني الماضي، من دفع بدلات النقل لطلاب المدارس المدمجة عن أعوام سابقة. وطريقة التعاطي مع المدرسة الرسمية حولت المدراء إلى متسولين على أبواب البلديات أو الجمعيات والهيئات المانحة للبحث عن دعم للمازوت، والقرطاسية، والتجهيزات الضرورية، تحت حجة عدم وجود الأموال اللازمة. وفي جولة لـ«السفير» تبين أن «مدرسة عيناتا»، أقفلت برغم دعم البلدية لها بالمازوت، بقيمة عشرة ملايين ليرة على مدى سنوات عدة، وأكد رئيس بلديتها فوزي رحمة، أن «البلدية بالتعاون مع الأهالي تجهد من أجل إعادة فتحها، إذا ما توفرت الظروف المؤاتية، بغية الحرص على التلامذة، الذين يتوجهون يومياً إلى دير الأحمر، برغم سوء الأحوال الجوية طيلة أيام الشتاء وما يعنيه ذلك من مشقات وأكلاف على الاهل الذين بالأصل لم يستطيعوا الذهاب إلى العاصمة».
كما أقفلت «مدرسة الصوانية» بسبب تراجع عدد التلامذة المسجلين في بداية العام الدراسي إلى 18 تلميذا وتم دمجها مع «مدرسة يونين». وأقفلت «مدرسة اليمونة» كذلك بعد تراجع عدد تلامذتها إلى 30، ما دفع الأهالي إلى نقل أولادهم إما إلى مدارس بعلبك، أو إلى دير الأحمر. وفي «محور نبحا الرام»، ويضم خمس بلديات، توجد متوسطة واحدة مهددة بالإقفال، بسبب تراجع عدد التلامذة خلال السنوات العشر الماضية، من 300 تلميذ إلى أقل من 64 تلميذا للعام الحالي، ما أدى إلى دمج طلاب الصف الأول مع الثاني والثالث في غرفة واحدة، كما يدمج طلاب الرابع والخامس والسادس في غرفة واحدة، والسابع مع الثامن كذلك، ويبقى طلاب شهادة المتوسطة في شعبة واحدة. وعزا مدير «مدرسة نبحا» السابق حسين أمهز أسباب النقص في عدد التلامذة إلى «توجه الأهالي للعيش في المدينة، والنقص المادي في صناديق المدرسة، وتحفيز البعض على تسجيل أولادهم في المدارس الخاصة عبر تأمين المتطلبات، والمناقلات العشوائية في المعلمين، إذ يعلم من لديه اختصاص الجغرافيا مادة الرياضيات، إضافة إلى الدمج في الصفوف حيث يزيد من قلق الأهالي على أبنائهم فيضطرون لنقلهم إلى مدارس أخرى مكرهين». وفي محاولة لتعزيز المدرسة أقيم مؤتمر في البلدة بدعوة من «جمعية سنابل العطاء»، تم فيه تشكيل لجنة متابعة لإعادة تأهيل المدرسة، إذ إنها بدون ماء للشرب، والمقاعد سيئة، وسورها الخارجي قسم منه مدمر بفعل العاصفة الثلجية الأخيرة، ويهدد القسم الآخر التلامذة بالخطر.
وقد تراجع كذلك، عدد تلامذة «متوسطة التوفيقية» من 160 تلميذا في العام 2006 إلى 89 تلميذا العام الحالي، بينما تشهد ثانوية خاصة تزايدا مطردا في أعداد التلامذة حيث تجاوز عددهم الألف. وأعلن رئيس بلدية التوفيقية خليل البزال أن «البلدية ساهمت العام الماضي بمبلغ ألف دولار لتأمين المازوت ودفع رسوم بعض التلامذة ممن عجز أهلهم عن دفعها». وأكد احد معلمي المدرسة أن «الثقة بالمدرسة الرسمية فقدت بسبب غياب دور التفتيش التربوي، حيث لا يزرو المدرسة إلا مرة واحدة في السنة، فيما المراقبة في المدارس الخاصة يومية». وشكا من أن «بعض المدراس الخاصة تعلم نماذج من كتب في دولة خليجية، وتحوي مصطلحات مختلفة عن المنهاج الرسمي اللبناني، ولم تتدخل أجهزة الرقابة التربوية لوقفها».
وشهدت مدرسة معربون تراجعا في عدد تلامذتها حيث وصل إلى 80 تلميذا، ومردّ ذلك إلى أن معظم المعلمين من المتعاقدين، فمن أصل 13 مدرّسا، بمن فيهم المدير والناظر يوجد ثمانية متعاقدين. ولعبت البلدية دورا في تأمين المحروقات بقيمة ثلاثة ملايين ليرة. كما تشهد الصفوف حالات دمج في كامل المرحلة الابتدائية. أما تلامذة بلدة حام في المرحلة المتوسطة فيذهبون إما إلى معربون، أو إلى بعلبك. وتراجع عدد تلامذة «متوسطة حوش الرافقة» من 200 تلميذ إلى 135، ومعظمهم توجه إلى مؤسسة تعليمية خاصة. كما تعاني المتوسطة من عجز مالي فمجمل مدخولها لا يتجاوز التسعة ملايين ليرة سنويا، عدا دعم مجلس الأهل، ويجب على المدرسة أن تدفع 7 ملايين ليرة للحجّاب، وخمسة ملايين ثمن مازوت، وأربعة ملايين ليرة للقرطاسية والهاتف والمياه والكهرباء، وبالتالي تقع المدرسة في عجز سنوي بنحو ستة ملايين ليرة، يعجز مدير المدرسة ولجنته المالية عن تأمينها. ومن المشاكل التي تعاني منها المدرسة للعام الحالي عدم تأمين مدرس اللغة العربية للمرحلة الثالثة، حتى نهاية الشهر الثاني من بدء العام الدراسي.
وتجاوز عدد من المدارس الرسمية خطر الإقفال بسبب لجوء مديريها بالتعاون مع بعض المعلمين إلى تسجيل التلامذة، ودفع الرسوم عنهم، إلا أنهم لا يداومون لإبقاء المدرسة مفتوحة، وهذا الأمر برسم المفتشين التربويين. أما «تجمع مدارس بعلبك»، الذي يضم ثانوية ومتوسطة وابتدائية وروضات، وقد شيد حديثا، وتوقع له أن يضم بين صفوفه 1386 طالباً، بحسب تحديد الغرف مع كل التجهيزات، إلا أن حساب الحقل لم يتناسب مع حساب البيدر، فمن أصل ذلك العدد وصل عدد المسجلين في كل مراحل المجمع إلى 412، موزعين على الثانوي 160، والمتوسط 127، والابتدائي 95، والروضات 30. بينما التوزيع المفترض للصفوف المنجزة ثانوي 270، ومتوسط 344، وابتدائي 648 وروضات 144 تلميذا. تجدر الإشارة إلى أن عدد طلاب المجمع تراجع عن العام الماضي 162 في كل المراحل. ومن بين أسباب التراجع أن وزارة التربية لم تنقل كل المدارس المفترض نقلها إلى المجمع. ومشاكل المجمع عديدة، تبدأ في مكانه المرتفع حيث تزيد كلفة الوصول إليه، والكلفة العالية للتدفئة حيث يصعب على موازنته تأمينها، ما اضطر مدراء المدارس الى تغيير نوعية التدفئة عبر اللجوء إلى المدافئ التقليدية بدلا من التدفئة المركزية. كما أن المجمع محروم من المحول الكهربائي لكل فروعه. وفرع الروضات غرفه غير مجهزة بحاجيات الروضات.
رئيس بلدية بعلبك هاشم عثمان من خلال تجربته التربوية كمدير سابق لإحدى المتوسطات الكبرى في المنطقة، اعتبر أن «التسرب المدرسي في المرحلة المتوسطة من أخطر الظواهر، وسببها المباشر عدم اجراء إحصاءات دقيقة من وزارة التربية لمعرفة اتجاه التسرب»، لافتاً إلى أن «بعض المتسربين من تلك الفئة العمرية يضيعون في انحرافات أخلاقية تؤدي إلى الجريمة، وتعاطي المخدرات، خصوصا أن بعض المنحرفين يبيعون بعض أنواع الحبوب المهلوسة داخل المدارس بغية الربح». وأضاف: «على وزارة التربية أن ترسم خارطة دقيقة للتسرب، تبدأ من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية، تتعاون فيها مع المدارس الخاصة». ورأى أن «المدرسة الرسمية هي أساس بناء الوطن وغير ذلك نبني تربية ذات مناهج مذهبية»، مشيراً إلى أن «البلدية تصرف سنويا لكل مدارس بعلبك ما يزيد على 15 مليون ليرة». أما عن دور مجالس الأهل «فيقتصر فقط على اعتباره صندوق دعم للمدرسة يدفع الحاجيات التي لا يؤمنها صندوق المدرسة، ولا دور تربويا له».
وتفتقر المنطقة لدور فاعل لجمعيات المجتمع المدني، والأندية الثقافية في التدخل لدعم المدرسة الرسمية، فيقتصر بعض الدور على تنظيم دورات تقوية للطلاب من قبل المنتديات الثقافية. وتدرس «مؤسسة الوليد بن طلال» للعام الحالي إمكان تأمين بعض التجهيزات لـ «مجمع مدارس بعلبك» من ألواح الكترونية لكل مرحلة وتأمين مدافئ ومولدات كهربائية متوسطة وأجهزة كومبيتر وفاكس وماكينات تصوير.(السفير 5 كانون الثاني2012)