قبل أقل من سنة ونصف سنة، كان مقدراً لكتاب التاريخ أن يسلك طريقه الى الإعداد، بعدما تمكنت اللجنة التي تشكلت في عهد وزير التربية السابق حسن منيمنة، والتي ضمت مؤرخين وأكاديميين وممثلين لقوى 8 و14 أذار وللطوائف ومستقلين، من انجاز المنهج العام لكتاب التاريخ المدرسي الجديد في الحلقات الثلاث من التعليم الأساسي حتى الصف التاسع "البريفيه"، ووافق عليه مجلس شورى الدولة، وأرسل مشروع مرسوم الى مجلس الوزراء السابق في 10/08/2010.
فما الذي دعا الى اعادة قراءة النص وتعديله من اللجنة الوزارية التي شكلها مجلس الوزراء الحالي؟ وهل ان التعديلات التي تمت في اجتماعات معدودة انقلاب على الاتفاق الذي تم في اللجنة التي اعدت الاهداف والمنهج، ام لادخال وقائع تاريخية جديدة؟ أم ان الهدف منع اعداد كتاب تاريخي موحد؟ وألا يعني ادخال تعديلات من جهة واحدة، مطالبة كل الجهات والطوائف بإدخال ما يعنيها في كتاب التاريخ؟ وبالتالي انفراط عقد المشروع كله.
كل الأسئلة مشروعة في ضوء التعديلات التي أدخلتها اللجنة الوزارية التي ترأسها الوزير نقولا فتوش، وهي قد لا تسير حين يطرح المشروع في مجلس الوزراء، خصوصاً بعد معلومات عن اتجاه الرئيس نجيب ميقاتي الى عدم ادراجه في جدول جلسات الحكومة. لكن تعديلات اللجنة تطرح علامات استفهام كثيرة عن مصير كتاب التاريخ، وما اذا كان ممكناً اعداده في ضوء الانقسام السياسي والطائفي، أو انجاز قراءة موحدة لتاريخ لبنان.
التعديلات التي اقترحها الوزراء، وان باتت معروفة، تعبر عن منحى سياسي مختلف واتجاه جديد، فهل كانت بعض القوى في الحكومة الحالية تثق بممثليها في لجنة المؤرخين والاكاديميين الأولى. واذا كانت بعض الاقتراحات ليس لها طابع سياسي بحت، كما اقترح الوزير فنيش مثلاً في ابراز دور جبل عامل في بدايات القرن الماضي، وادخال أسماء كالشيخ أحمد رضا، والشيخ سليمان ضاهر، ومحمد جابر آل صفا، إلا ان ذلك ألا يحفز طوائف ومناطق أخرى لاقتراح ادخال أسماء كان لها دور ثقافي او تاريخي معين.
اما النقطة الأهم فتتعلق بالاعتراضات على ادراج تسمية "ثورة الأرز" في المنهج وطلب الغاء الحديث عن مرحلة ما بعد 14 أذار 2005. ثم اقتراحات من هنا وهناك، بينها ادخال اسماء خلال حقبة مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، كخالد علوان، علماً ان هناك اسماء كثيرة استشهدت وكان لها اثرها مع بدء المقاومة، وهو ما لا يستوعبه كتاب التاريخ. ثم كيف يمكن الغاء محطات اساسية من تاريخ لبنان، وان كانت تأثيراتها سلبية، فـ7 أيار، ما قبله وما بعده، ادرج بموافقة الجميع، والغاؤه يعني تشكيك بصدقية من وقع عليه وانقلاب على الثوابت التي تم التوافق عليها.
والواقع ان اغفال حقائق تاريخية من المنهج ووقائع حدثت في تاريخ لبنان يفقد الكتاب صدقيته. فإذا علمنا ان اللجنة الاولى التي شكلت بتاريخ 5 آذار 2010، قد ضمت ممثلين للقوى السياسية والطوائف كلها ومؤرخين وأكاديميين ومستقلين، وجميعهم وقعوا كل ورقة من نص المنهج بعد انجازه. وضمت اللجنة كلاً من: رئيسة المركز التربوي للبحوث والانماء الدكتورة ليلى فياض، الدكتور علي بزي ممثلاً حركة أمل، الدكتور محمود حداد "مستقل"، علي الحلاق من المقاصد، الدكتورة سعاد أبو الروس سليم "مؤرخة ومستقلة"، الدكتور جورج شلهوب "قوات"، الدكتور طوني ضو "عوني"، الدكتور الياس قطار "مستقل"، الدكتور حسن جابر "حزب الله"، الدكتور انطوان حكيّم "كتائب"، الدكتور عصام خليفة "مؤرخ مستقل"، الدكتور عبد الرؤوف سنو "مؤرخ مستقل"، أنور ضو "الحزب الاشتراكي"، الدكتور وجيه كوثراني "مؤرخ مستقل"، وأمال وهيبه منتدباً من المركز التربوي.
تمكنت هذه اللجنة بنقاش معمق وصريح وواضح، من ان تضع منهجاً وأهدافاً، يتضمن النص وقائع تاريخية دقيقة لمرحلة التعليم الاساسي. ويكتب في تلك المرحلة لوزير التربية السابق الدكتور حسن منيمنة ان تبنى النص الذي انجزته اللجنة ورفعه كمشروع مرسوم الى مجلس الوزراء، بعد نيل موافقة مجلس الشورى. واذا كان متوقعاً ان يثير المنهج نقاشات، لكن غير المتوقع كان ادخال تعديلات جديدة عليه لا تتناسب مع التوافق الذي ساد في اللجنة، إذ عرض لكل ما مّر على لبنان من حوادث، وهو يظهر، كما يقول الوزير السابق حسن منيمنة، أن في امكان لبنان أن يصدر كتاباً حقيقياً وصادقا يتضمن كل المراحل التاريخية، مشيراً الى ان المشروع كان نال موافقة كل القوى السياسية في البلاد.
في المنهج العام، لا بد من التركيز على ما تضمنته الحلقة الثالثة- السنة الثالثة (السنة التاسعة الأساسية) أي البريفيه، من محاور ومضمون. وهي الحلقة التي تتضمن محطات أساسية في تاريخ لبنان الحديث، منها محطة الحرب الأهلية، والاجتياحات الاسرائيلية والاغتيالات التي طاولت رموزاً أساسية في الكيان اللبناني.
في النص الاساسي، والذي لم يتغير، باستثناء التعديلات التي تنسف محطات أساسية، وتغير وقائع واسماء في مراحل محددة، يقرأ المتعلم، على خط زمني، أهم الحوادث والمراحل التي ميزت تاريخ لبنان. والجزء من المنهج المتعلق بمرحلة الحرب في لبنان 1975- 1990، يعتبر الأهم في طريقة عرض ما حصل في لبنان في هذه المرحلة، وهي التي كانت تقسم اللبنانيين بين منطقتين. فيتضمن المنهج مسار الحرب في لبنان، العامل الفلسطيني المسلح ودوره في حرب لبنان، مصلحة العدو الاسرائيلي ودوره في تأجيج الحرب، انعكاس الحرب الباردة والصراعات العربية - العربية على لبنان، دخول الجيش السوري في العام 1976 ودوره في ادارة الأزمة، استشهاد كمال جنبلاط، اخفاء الامام موسى الصدر، الاجتياح الاسرائيلي الاول للبنان (1978) والقراران 425 و426، المواجهات ما بين الجبهة اللبنانية والقوات السورية وحوادث الاشرفية (1978) وزحلة (1980- 1981)، الاجتياح الاسرائيلي الثاني (1982) وخروج الوحدات السورية والمقاومة الفلسطينية من بيروت، انتخاب بشير الجميل رئيسا للجمهورية واستشهاده، مجازر صبرا وشاتيلا، رئاسة امين الجميل، حرب الجبل، انتفاضة 6 شباط، واسقاط مشروع اتفاق 17 أيار، خروج القوات المتعددة الجنسيات، الاتفاق الثلاثي واسقاطه، خطف الاجانب، عودة القوات السورية الى بيروت الغربية، سيطرة الميليشيات على مقدرات الدولة، استشهاد الرئيس رشيد كرامي، القوى الرافضة للحرب (النقابات والمجتمع المدني...)، نهاية ولاية امين الجميل وعهد الحكومتين (عون والحص)، حرب التحرير، التهجير والهجرة، اسعار صرف الليرة وانعكاساتها.
ويعرض المنهج اتفاق الطائف ومسيرة الاستقرار والعمران، ملخصاً عن مقرراته ودور رفيق الحريري فيه، استشهاد الرئيس رينه معوض وانتخاب الياس الهراوي رئيسا للجمهورية والتمديد له، اتفاق الطائف وتطبيقه، تعديل الدستور، دخول الجيش السوري الى المناطق الشرقية، ازاحة حكومة الجنرال ميشال عون 1990، نزع سلاح الميليشيات باستثناء سلاح المقاومة والمنظمات الفلسطينية، الانتخابات النيابية، سياسة اعادة الاعمار، مصالحات الجبل، السينودس وأثره، مرسوم التجنيس، الانسحاب الاسرائيلي، قرنة شهوان وحركات المعارضة وقمعها، التمديد للرئيس لحود، قرار مجلس الامن 1559، ظروف اغتيال الحريري وثورة الأرز، استقالة حكومة عمر كرامي، الضغط الخارجي والداخلي وخروج الجيش السوري من لبنان، حكومة نجيب ميقاتي والانتخابات النيابية والبلدية، مجيء حكومة فؤاد السنيورة، تشكيل المحكمة الدولية، اتساع عمليات الاغتيال، انسحاب وزراء المعارضة من الحكومة والاعتصام في الوسط التجاري (2007- 2008)، معارك نهر البارد، حوادث السابع من أيار 2008: أسبابها وتداعياتها، اتفاق الدوحة، انتخاب الرئيس ميشال سليمان رئيسا للجمهورية، وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية.
والسؤال، اذا كان الجميع وقع على نص المنهج الجديد الذي يقدم مادة للمناقشة لتاريخ البلد حديثاً، خصوصاً منذ العام 1958، وتحديداً بعد العام 1957 وحتى العام 2009. واذا كان اللبنانيون يعرفون الكثير عن مجريات حروبهم الأهلية والتدخلات الاقليمية والدولية في شؤونهم، كل بحسب موقعه ومنطقته وطائفته، فإن مكاشفتهم من خلال كتاب التاريخ بالوقائع والحوادث ومدلولاتها تفتح باب التسوية بينهم، وتفهمهم لما حصل، فلماذا هذا التراجع والانقلاب على تاريخ حصل بالأمس. فكتاب التاريخ لكل اللبنانيين وليس لفئة دون أخرى.(الهار 3 شباط2012)