قرابة الحادية عشرة ظهراً، كان مئتا تلميذ يملأون أزقة قرية العريضة، ومستنقعاتها، المؤدية إلى المدرسة الرسمية. نسبة ولادات مرتفعة جداً، هي سمة المجتمعات الأكثر فقراً، في قرية تمتد أربعمئة متر إلى جانب النهر الكبير ومئتي متر من ناحية البحر. فإذا سلمت القرية من ارتفاع منسوب مياه النهر، تبقى مهدّدة بثورة أمواج البحر.
لا تحتاج مدرسة العريضة الرسمية إلى ملعب، إذ لا خوف على الأولاد من دونه، لأن المسافة التي تفصل المدرسة عن أبعد منزل لا تتجاوز ثلاثمئة متر، حيث بين المستنقع والآخر كومة وحل تعوق سرعة السيارات. يحتاج التلميذ فقط إلى جزمة بلاستيك هي من عدة حياته اليومية، بحكم إقامته الدائمة إما على حافة النهر أو على شاطئ البحر.
في ذلك النهار الماطر، لوحظ خروج التلاميذ من منازلهم، ولفائف البطاطا أو السليق بأيديهم، وهم يهرولون ناحية المدرسة، من دون مظلات ومن دون مشمّعات واقية من المطر. لن يختلف الأمر داخل المدرسة، فالأسطح تدلف، ومياه النهر الكبير تتسرّب إلى صفوف مثل علب السردين، جرى حشرها تباعاً خلف مسجد القرية على همة الأهالي ونفقتهم. هجر المعلمون غرفهم ولاذوا بغرفة الإدارة حيث «صوبيا» المازوت الوحيدة في المدرسة. أما غرفتهم فبقيت مرتعاً للصدأ يأكل خزائن الكتب، والشبابيك، ودرجة رطوبة عالية أدت إلى جعل طلاء السقف والجدران أثراً بعد عين. ومن شدة رائحة العفن، كان لا بد من إبقاء النافذة مفتوحة مهما ارتفعت درجة الصقيع. إمام المسجد وزوجته ورئيس لجنة الأهل ضيوف دائمون على إدارة المدرسة، فضلاً عن الأساتذة الهاربين من غرفهم. لذلك فهم يسبقون مديرة المدرسة وفاء عاصي لتناول أطراف حديث، جلّه عن قساوة هذا الشتاء التي زادت «قساوة العيشة»، يقول إمام المسجد خضر عبلا. يضيف الرجل أن المدرسة عرضة لفيضان النهر الدائم، مستفيضاً في الحديث عن مستويات الفقر في العريضة، حيث يعجز الأهالي عن سداد الرسوم المدرسية البسيطة، إذ من أصل مئتي تلميذ لم يدفع خمسون تلميذاً ما يجب عليهم. تستغل زوجة الشيخ غياب زوجها لكي تشتكي من صعوبة إطعام «22 نفساً» في منزلها، هم أولادها وأولاد ضرّتها. زوجة الشيخ تقدم الشاي في المدرسة نيابة عن زوجها الذي يعمل في المدرسة، وتذهب أيام الصحو لتجمع الهندباء و«السليق»، بعضه وجبات شبه يومية للعيال، وما يتبقى للبيع في سوق الخضر بما يقارب عشرة آلاف ليرة، التي تساوي ثمن خبز يستهلكه طابور عيال الشيخ يومياً.
أما رئيس لجنة الأهل محمد مصطفى فيقول إن أهالي القرية حاولوا تقديم قطعة أرض يملكها الأهالي لكي تشيد عليها وزارة التربية بناءً مدرسياً، لكن موقع الأرض على شاطئ البحر حال دون ذلك، علماً بأن الأراضي التي تقع فيها مساكن جميع أهالي القرية تعود ملكيتها إلى النائب السابق طلال المرعبي، وهي حال مساحات شاسعة من أراضي سهل عكار التي لا تزال تقع ضمن أملاك البكوات. وبعد حصول الأهالي على وعد بتقديم بناء مدرسي، حاولوا شراء قطعة أرض تفي بالغرض، لكن سعر الأراضي شهد تصاعداً دراماتيكياً، إذ ارتفع سعر المتر الواحد من ألف ليرة منذ خمس سنوات، إلى خمسة عشر دولاراً منذ ثلاث سنوات، ليصل إلى خمسة وثلاثين دولاراً في هذه الأيام.
هذه الأسعار يعجز عن تأمينها أهالي العريضة الذين يعتاش قسم كبير منهم من العمل في البحر. وهم يملكون عشرات القوارب بطرق تشاركية، معظمها ضمن العائلة الواحدة، حيث تشبه مشاركة الزوجة والأولاد في تنظيف الشباك مثيلتها في العمل الزراعي. لم تجنِ أسر البحارة من البحر أكثر مما يسدّ الرمق، وهي مجبرة على التعاون لتأمين القوت اليومي، وجلّ ما يمكن توفيره قد لا يكفي لإصلاح المراكب، فكيف لشراء الأراضي وبناء المدارس؟(11 شباط2012)