أكثر من مليون مريض دخلوا إلى مستشفى رفيق الحريري الجامعي خلال السنوات السبع الفائتة. هؤلاء فقراء وأناس عاديّون. الغالبية الساحقة منهم لا تملك المال لدخول المستشفيات الخاصة الباهظة التكاليف، وغير المستعدة لاستقبال من لا يملك القدرة على الدفع مقدّماً.
على أن دور المستشفيات الحكومية الشديد الأهمية بالنسبة إلى الشرائح الاجتماعية الأضعف لم يشفع لها لدى أحد. إذ توصل صنّاع القرار السياسي والاقتصادي في لبنان إلى الخلاصة العبقرية الآتية: الإنفاق على هذه المستشفيات لا يعدو كونه انفاقاً غير مجد. المطلوب إيجاد المخارج اللازمة لنقل هذه الأعباء الثقيلة من فوق أكتاف المالية العامة، نحو أكتاف المواطنين، علّها تمعسهم، لا أكثر. فالمالية العامة لا تحتمل مزيداً من العجوزات، أمّا حيوات المواطنين الرخيصة فالتضحية بها ولا أهون.
ذاك أن المجدي في حسابات طبقتنا السياسية الضيّقة الأفق يقتصر على ما يدخل في باب التحاصص والتوازع للمغانم والمواقع والأدوار. أمّا ما هو مفيد للناس، وللفقراء منهم على التخصيص، فهو في أحسن الأحوال يأخذ من درب المتحاصصين جميعاً. لذا اقتضى التخلص منه على عجل، أو ـ وذلك حتى لا يتحول هذا المسلك العلني إلى فضيحة ـ تركه لمصيره وحيداً، علّه من تلقاء نفسه يرتاح ويريح...
فلقاء دورها الاجتماعي الكبير الأثر كافأت الحكومات المتعاقبة هذا المرفق الحيوي وغيره من المرافق المشابهة (الموات البطيء لمستشفى البترون الحكومي على سبيل المثال لا الحصر) بالدفع بها نحو عتبة الانهيار، ومن ثم دفع مرضاها نحو المستشفيات الخاصة التي تتوق لاستقبالهم كزبائن سمان، بعدما تراجعت أرباحها (الخيالية طبعاً بكل المقاييس!) عن المستوى المطلوب.
ولعل المثال الصارخ على ما تقدم هو ما يحصل حالياً في مستشفى الحريري الجامعي. إذ ولليوم الثامن على التوالي يواصل العاملون في المستشفى، ومن بينهم الأطباء والممرضون، إضرابهم المفتوح. وهو إضراب، على ما يقول أحد منظميه والمشاركين فيه، مرشح للتصاعد وليس العكس. «لأن الحلول المجتزأة والمؤقتة لم تعد مقبولة، ولن نرضى بأقل من انتزاع حقوقنا البديهية، والتي تتلّخص بدفع رواتبنا في وقتها، وبتأمين المستلزمات الطبية والموارد المالية الضرورية لعمل المرفق ومن دون أي نقصان».
«إذ ما العمل حين تجد نفسك أمام المريض بلا شيش معقم، أو حتى بلا أمصال؟»، يتساءل الموظف بغصة. ويضيف «ما العمل أيضاً عندما تجد أن الردّ على النقص الحاصل على مستوى اللوازم الطبية يكون بتزويد قسم التمريض بأدوات منتهية الصلاحية؟ ولولا أن الممرضين من ذوي الخبرة والكفاءة لما كانوا لاحظوا أنها غير صالحة للاستعمال، ولكانوا استخدموها لسد النقص. لكن الله ستر!».
«لسنا دعاة تعطيل مرفق عام بهذه الأهمية»، يشدّد الموظف، لكننا سنصعّد خطواتنا ابتداء من الأربعاء لأننا نشتم روائح تواطؤ علينا وعلى ديمومة المستشفى من قبل كل المسؤولين. ونحن لسنا غافلين عمّا يجري. وسنتصدى له بما أوتينا من قوة. فعددنا، كموظفين، يتجاوز الألف. وجمهورنا هم الفقراء من كل المناطق. الخميس سننزل إلى مجلس النواب، وسنقول لمن انتخبناهم أنهم كانوا دون المسؤولية التي أوليناهم إياها. وأنهم لن يستحقوا أصواتنا في الانتخابات المقبلة. طفح كيلنا بعدما تهدد مستقبل أولادنا وبناتنا ولن نرضى بعد اليوم بالمكرمات التي تهدف إلى إسكاتنا في كل مرة، ومن ثم نعود إلى المربع الأول من المشكلة».
وفيما يشير الموظّف إلى أن الاعتصام الضخم الذي جرى أمس في باحة المستشفى كان الأوسع لناحية مشاركة كل موظفي المستشفى، لاسيما منهم الأطباء، يقول أن الشعارات التي رفعوها أثناء الاعتصام تعكس همومهم المشتركة، وتدل على حرصهم على هذا المرفق وعلى ديمومة خدماته. ويردف الموظف قائلاً «إن الأقسام كافة أقفلت بسبب الاعتصام. ولم يتم إدخال سوى الحالات الطارئة التي سنبقى ملتزمين بالعناية بها». وتقرّر بنتيجة الاعتصام ما يلي: أولاً، تشكيل لجنة مؤلفة من عضوية جميع الأقسام الطبية وشبه الطبية والتمريضية والإدارية. ثانياً، عدم المس بكرامة أو بشخص أي إنسان داخل او خارج المستشفى. ثالثاً، عدم استعمال أي شعار سياسي وعدم السماح لأي شخص بحرف الاعتصام عن غاياته. رابعاً، المطالبة بوضع حد للاعتداءات الجسدية والمعنوية المتكررة على الكوادر الطبية والتمريضية. خامساً، المطالبة بتأمين المواد والمستلزمات الطبية اللازمة للقيام بالمهمات المطلوبة على أكمل وجه، ومن دون تقصير تجاه المريض او الإضرار بسلامته. سادساً، المطالبة بتسديد جميع المستحقات المالية المترتبة للموظفين حتى تاريخه، مع إيجاد حل دائم وجذري لهذه الأزمة. سابعاً، المطالبة بتشكيل لجنة تحت رعاية وزارة الصحة العامة لتقييم أوضاع المستشفى. ثامناً، المطالبة بنقل موظفي الملاك في المستشفى الى عاتق تعاونية موظفي الدولة وضم الموظفين المياومين إلى الضمان الاجتماعي وذلك بعد التنسيق مع المراجع المختصة. تاسعاً، المطالبة بتفعيل دور المستشفى بما يمكنه من جبه تداعيات الكوارث الطبيعية. وأخيراً، قرّر الأطباء والممرضون والموظفون الاستمرار في الاعتصام حتى تحقيق المطالب كافة.
«عنزة ولو طارت»
وبرغم ما تقدم، تصرّ المصادر الإدارية على التقليل من حجم ما يجري في المستشفى، معتبرة أن مبرّر الاعتصام انتفى بعدما تلقت الإدارة وعوداً بالحلحلة من أعلى المراجع المختصة. وتتساءل المصادر «لماذا الاستمرار في الاعتصام وإقفال الأقسام طالما أن الرواتب ستودع في الحسابات قبل نهاية الأسبوع الجاري». ولدى سؤال المصادر عن السبب برأي الإدارة يجيء الردّ: «الموظفون يتصرفون على قاعدة عنزة ولو طارت. هم لا يريدون الاقتناع بان الأزمة ستنتهي قريباً. هم يريدون التصعيد. وبصراحة نجهل أسباب ذلك كما نجهل المطالب الحقيقية للمعتصمين». وفي هذا المجال، علمت «السفير» أن اتصالات جرت على خط رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الصحة العامة علي حسن خليل انتهت إلى إقرار سلفة خزينة قيمتها حوالى 6 مليارات ليرة، من المفترض أن تحال الى مستشفى الحريري الجامعي خلال الأيام القليلة المقبلة.
وفي الختام، تؤكد المصادر الإدارية أن هذا الدعم سيتلازم بحسب ما أكدت «مراجع عالية المستوى» مع المزيد، بغية إعادة خدمات المستشفى إلى مستواها المعهود، وتالياً الارتقاء بها الى المستوى الذي يتوقعه غالبية المواطنين من مرفق عام بهذه الأهمية. فالمستشفى وفق تلك المراجع «هو العمود الفقري للنظام الصحي اللبناني برمّته ولا يمكن التضحية به لأي سبب». فهل تقترن الأقوال بالأفعال؟
الأيام القليلة المقبلة قد تحمل جواباً على السؤال.