لا أحد يحمي اللبنانيين، لا دولة ولا من يحزنون. هم أصلاً يعيشون في ظل تغطية صحيّة سياسيّة، «يشترونها» بالمفرق إن استطاعوا إليها سبيلاً. لكنهم يدفعون في كل مرّة ثمن أي اهتزاز يصيب العلاقة التعاقدية بين المستشفيات والجهات الضامنة. هذه هي الحال اليوم مع توقف المستشفيات الخاصة عن استقبال مرضى الوزارة
محمد وهبة
منذ أكثر من شهرين انفجرت أزمة بين المستشفيات الخاصة ووزارة الصحة. الأزمة بقيت صامتة لأسابيع من دون أي أفق للحلّ، فيما قرّر أصحاب المستشفيات الخاصة وقف استقبال مرضى الوزارة على نحو تدريجي على أن يتوقّف كلياً بعد 15 يوماً بحسب مصادر الوزارة. السبب ليس واضحاً بمقدار ما هو مؤلم للمرضى؛ فالوزارة ترصد مبلغاً شهرياً مسبقاً لكل مستشفى، مخصصاً لاستقبال المرضى الذين تقع تغطيتهم الصحية على حساب الوزارة. الوزير هو الذي يصدر هذا القرار سنوياً ويدرجه في موازنة الوزارة، على أن لا يتجاوز أي مستشفى المبلغ المحدد إلا بقرار من الوزير وبعقود مصالحة. ما جرى هذه السنة أن وزير الصحة علي حسن خليل، وضع سقوفاً مالية وفق أرقام عام 2009، أي أقل من المبالغ المحدّدة لعامي 2010 و2011، فردّت المستشفيات بقرار التوقف عن استقبال المرضى.
السقف المالي
في نهاية 2011، بدأت المستشفيات الخاصة تتوقف تدريجاً عن استقبال المرضى الذين هم على عاتق وزارة الصحة. بلغت الأزمة ذروتها في مطلع السنة الجارية حين توقفت المستشفيات عن استقبال المرضى، مدعية أنها تستقبل الحالات الطارئة فقط. المشكلة كما يرويها رئيس نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون، تتعلق بالسقف المالي المحدّد لكل مستشفى. يؤكد هارون أن «تحديد السقف المالي على أساس موازنة 2009 ليس كافياً. فهذه السقوف لم تكن كافية أساساً لاستقبال مرضى الوزارة في حينه، فكيف هي الحال بعد مرور 3 سنوات». فخلال هذه الفترة، أي بين 2009 و2012 يفترض أن أعداد المرضى ارتفع، وبالتالي ارتفع عدد المرضى الذين يريدون الاستشفاء على حساب وزارة الصحة العامة. وبالتالي يجب أن ينسجم السقف المالي، أي المبلغ المحدّد مسبقاً لكل مستشفى لاستقبال المرضى، مع التطورات البنيوية في المجتمع. فبحسب الإحصاءات التي يرددها المطلعون على سوق الصحة في لبنان، إن زيادة المسنين بنسبة 13%، بالإضافة إلى الزيادة السكانية السنويّة المقدّرة بحسب الإحصاء المركزي بنسبة 1.7%، يضاف إليهما انتشار الأمراض... كلها تؤدي إلى ارتفاع الطلب على الطبابة والاستشفاء.
هكذا يبني هارون وأصحاب المستشفيات موقفهم للمطالبة بزيادة السقف المالي ودوافعهم لوقف استقبال مرضى الضمان. لكن هارون يستند أيضاً إلى تاريخ طويل من الديون مع الوزارة ليعزّز هذا الموقف، فيشير إلى أن هناك نحو 130 مليار ليرة ديوناً على الوزارة تعود إلى الأعوام 2000 ـــــ 2010، وهي ناجمة عن التجاوزات للسقف المالي المحدّد للمستشفيات في تلك الفترة، وقد أُقرّت لاحقاً بعقود مصالحة ولم تُدفع بعد، «فكيف يمكننا أن نعمل وفق سقوف سابقة، فيما سيطلبون منا أن نتجاوزها ولن يدفعوا لنا؟» يسأل هارون.
معوقات الموازنة
من وجهة نظر وزارة الصحّة، هناك وضع قانوني يؤثّر على حجم إنفاق الوزارة. فالإنفاق في وزارة الصحة مرتبط مباشرة بإقرار الموازنة العامة، أي إن إنفاق الوزارة مرتبط بإقرار موازنتها. وبما أنه ليست هناك موازنات مقرّة قانوناً منذ عام 2005 إلى اليوم، فإن وزارة الصحة العامة كانت ولا تزال، تنفق كباقي الوزارات، على أساس القاعدة الاثني عشرية، أو على الأقل يفترض أن تنفق على هذا الأساس. لكن الوزير السابق محمد جواد خليفة تمكّن من رفع الإنفاق في الوزارة بصورة سنوية لكونه أمراً طارئاً يعدّ من النفقات الثابتة، وعلى أساس توقيع العقود مع المستشفيات في مطلع السنة، ثم تُعدَّل بالقيم الجديدة بعد إقرار مجلس الوزراء مشروع الموازنة، فتحال العقود على ديوان المحاسبة للموافقة عليها... واستمرت هذه العملية طوال هذه الفترة.
هكذا تمكنت الوزارة من زيادة إنفاقها الصحّي من دون إقرار موازنة. لكن الوزير الحالي للصحّة علي حسن خليل، لم يوقع العقود مع المستشفيات على الأساس نفسه، بل حدّد موازنة 2009 أساساً للإنفاق، وأبلغ أصحاب المستشفيات الخاصة بأن توقيع العقود سيكون على هذا الأساس، مشيراً إلى أن رفع السقف في ظل عدم وجود موازنة 2012 هو أمر غير متاح. ويؤكد المطلعون أن خليل أرسل كتاباً إلى مجلس الوزراء لتسوية هذا الوضع، لكن الأمر يحتاج إلى قرار من مجلس الوزراء لتعديل السقوف المالية.
غير أن للمستشفيات أهدافاً متعدّدة من وراء هذه الخطوة؛ فهي لم تتوقف عن استقبال مرضى الوزارة فحسب، بل توقفت عن استقبال مرضى الضمان الاجتماعي أيضاً؛ لأنها تريد من جهة الضغط على مجلس الوزراء لزيادة السقف المالي الذي تحدّده لها الوزارة ولقبض مستحقاتها السابقة التي تعود إلى عام 2000، وتريد أيضاً الضغط على المعنيين في صندوق الضمان الاجتماعي لزيادة أسعار التعرفات الاستشفائية.
فجوة التغطية
على أي حال، تأتي هذه القصة لتفتح باباً كبيراً في وزارة الصحة، لا بل فجوة ضخمة في آليات التغطية الصحية في لبنان. فما هي المعايير التي تعتمدها وزارة الصحة لتحدّد السقف المالي لكل مستشفى؟ في الحقيقة حاول الكثيرون من الخبراء في القطاع الإجابة عن هذا السؤال، لكن أياً منهم لم يعرف سبيلاً إلى ذلك؛ لأن كل المعطيات المتوافرة في الوزارة والوزراء السابقين ومديرها يؤكدون أنه ليست هناك معايير لتحديد السقف المالي، بدليل أنه يصدر بقرار وزير. وبالتالي هناك الكثير من الأسئلة التي يجب على وزارة الصحة أن تجيب عنها: ما الذي يمنع أي مستشفى من استنفاد السقف المالي بسرعة كما يحصل حالياً (غالبية السقوف المالية تستنفد في أول 10 أيام من الشهر)؟ وما الذي يمنع أياً منها من الاحتيال بالفواتير (وهو ما اكتشف أكثر من مرّة لدى وزارة الصحة ولدى الجهات الضامنة الأخرى)؟ هل المعيار المحدّد لكل مستشفى هو معيار طائفي أم مناطقي أم طبي أم تشغيلي (نسبة الإشغال) أم سياسي... أم مزيج وخليط من هذه المعايير؟ من يحدّد المعايير التي يجب اعتمادها؟
في هذا الإطار تأتي المشكلة الأساسية للنظام الصحي في لبنان حيث هناك تعددية جهات ضامنة تعمل كل منها وفق معايير مختلفة وبأنماط مختلفة، ووفق تقاطع مصالح سياسية ومذهبية مع المستشفيات... لا شكّ في أن 100% من المسؤولين في لبنان يرفضون التغطية الصحية الشاملة لكل اللبنانيين لهذه الأسباب.
28 شباط2012