وزارة الصحّة لا تغطّي حالات الانتحار
لو عرف زاهد زغيب أن محاولة موته، مجرّد المحاولة قسراً، ستحمل أسرته إلى دوامة مالية تثقل عليها خبر الموت، ربما كان أتقن سبيل موته، على نحو لا لبس فيه: كان أحكم الوثاق بين قدميه، كما فعل والده نبيل، في العام الماضي، لمّا لف الملاءة حول عنقه، وشدّ الوثاق.
صباح أمس كان موعداً للمتعاطفين مع زاهد. أصدقاء الشاب هرعوا إلى مدخل وزارة الصحة على عجل. الوزير علي حسن خليل كان مشغولاً، فلم يلتقِ بالناشطين الذين طلبوا مقابلته. «الوزارة لا تغطّي حالات الانتحار»، قال المستشار للمتحدثة باسم الناشطين، واعداً بمتابعة الوضع الصحي لزاهد بالتنسيق مع إدارة المستشفى.
اليوم، يرقد زاهد في سرير «مستشفى الجامعة الأميركية» في بيروت. الدولة، في نظر العائلة، مخلوق من لحم ودم. يتحدثون عنها بسخط فيه الكثير من الوصف للبشر، لا الأشياء: وجهها دميم، وقلبها جاحد، في جسد يشيخ ترهلاً.
والدة زاهد تعرف أن ابنها نموذج من بين آلاف الشبان. الأم تنتظر اليوم الذي يستفيق فيه زاهد من غيبوبته. دماغ الابن مصاب بنزيف حاد، وقفصه الصدري تكسرت عظامه. تسمع الأم من الأطباء أن زاهد بحاجة ماسّة إلى إجراء عملية جراحية. «العملية غير ضرورية»، يقول الأطباء لغير الأهل.
خوف الأم لم يعد في الدوامة الصحية فحسب، بل طغى على الدوامة توجس مخزٍ: من يسدد فاتورة المستشفى، التي تخطّت الستين مليون ليرة؟ من يكفل عدم تلكؤ المستشفى في إجراء عملية جراحية «ضرورية»؟
الأم حائرة وحيدة بين أبنائها. هي مصابة بالسرطان، والابن غدره الموت الذي ذهب إليه عنوةً. الأموال تتكدّس في المستشفى، وسدادها يتيم: «وزارة الصحة لا تغطّي حالات الانتحار»، يقول مستشار الوزير، لناشطة قصدته أمس، بصحبة الأم الحزينة.
«لكن زاهد ربما لم ينتحر»، تقول والدة الشاب. توضح بنبرة مستكينة: «ربما كان يحاول الانتحار فزلّت قدمه، وربما كان ملاحقاً من القوى الأمنية. لكن في الحالتين، هل يُترك مصيره الصحي في الهواء؟ من أين لنا تسديد هذا المبلغ الباهظ؟».
ثمة من يقول إن زاهد رمى بنفسه من الأعلى، وثمة من يقول إن قدمه زلّت بعدما كانت تلاحقه القوى الأمنية. لكن المكان الذي هوى منه زاهد، هو ذاته الذي لجأ إليه قبل تسعة أشهر ليكون الشاهد على خلاصه.
على خطى والده سار زاهد: قال للملأ إن والده لم ينتحر. «والدي اعترف بأن الانتحار سبيل ضعيف، لا يقدم عليه إلا الضعفاء. والدي كان وحيداً، يعود إلينا خالي الوفاض، في بلد ينام الفقير جائعاً، فيما أمراء الطوائف ينامون على بطون من ذهب».
عندما ضاقت الدنيا بزاهد، سار إلى موته قبل سبعة أشهر، فلم ينجح في قتل فقره وعوزه. آنذاك، قال ما قال عن والده، وعاد إلى حياته المعدومة، بين ثلة من الأصدقاء في عين المريسة. إلى جانب صخور البحر كان ينام، في العراء، معزولاً.
قبل عشرين يوماً، وبعد مرور أيام صارع فيها زاهد قوت رزقه مهزوماً، عاد الشاب إلى المكان ذاته الذي خذله في قتل فقره. قبالة صخرة الروشة وقف زاهد يحدّق في العلو الشاهق.
لم تكن مشيئة زاهد الوصول إلى سرير وثير. هو ربما لا يريد الاستيقاظ، مفضلاً النوم بالقرب من والده. لكن محبيه ينتظرون سماع صوته، تحريك يده. ينتظرون منه أي إيماءة تبعد عنه الموت. يجاهدون إلى جانب العائلة، لتأمين تغطية نفقة علاجه الباهظة. يقولون: «نحن معكم».
زاهد يعرف أن موته هادئ، في بلد لا يخرج ناسه عن طورهم إلا بإشارة من قبضة زعيم، لأسباب سياسية. محبّوه يبكون حال بلدهم، ويبكون زاهد وأمثاله. صباح أمس كان بمثابة الصدمة لهم. وقفوا وحدهم، بلا جواب: «هل الانتحار بسبب أذى الدولة عار، لا تغطّيه الدولة، صاحبة الوجه الدميم؟».
3 آذار 2012