مؤتمر «إصلاح السياسات الاجتماعية في لبنان»: 40 ألف مهاجر سنويّاً بسبب البطالة

انخفضت الأسر ذات الدخل المتوسط من 60 % في العام 1974 إلى 20 % في 2004
بعد السجال الطويل بين وزير العمل السابق شربل نحاس من جهة والهيئات الاقتصادية والاتحاد العمالي العام من جهة أخرى، الذي نتج عنه استقالة نحاس، وإقرار زيادة بالتراضي على الأجور لم تسهم برفع القدرة الشرائية لدى العمال، وفي ظلّ حديث مستمر عن وضع «ميؤوس منه» في ما خصّ قطاعي الكهرباء والمياه، ومع تفاقم الفقر وارتفاع كلفة الفاتورة الصحيّة كما أسعار العقارات... يبدو الحديث عن «إصلاح السياسات الاجتماعية في لبنان: من الدعم الانتقائي إلى الرعاية الشاملة»، وهو عنوان المؤتمر الذي نظّمه «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق»، وعلى اهميته، غير مجدٍ، ولا يمكن أن ينتج عنه الا أوراق بحثية تُحفظ في الأدراج والمكتبات. فالسائد في أذهان اللبنانيين أن لا نية لدى المسؤولين بمعالجة قضاياهم الاجتماعية، وما السياسات الحكومية المتعاقبة الا برهان على ذلك. ثم أليس لبنان بلد «اليخوت» والمجوهرات المعفية من الضريبة على القيمة المضافة؟
لم يدّع رئيس المركز عبد الحليم فضل الله، أن المؤتمر سيأتي بخطط إصلاحية. لكنه لم ينف أن طموحه يتخطى تقديم رزمة أخرى من الدراسات إلى «إتاحة مساحة حوار متحررة نسبياً من يوميات السياسة، تتناول العناوين الاجتماعية المختلفة في إطار منظور متعدد الأبعاد والأولويات». لذلك اختير المؤتمرون من الباحثين في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والصحية.
وإذ رأى فضل الله أن «المرحلة الانتقالية التي يمرّ بها البلد على أكثر من صعيد، هي الوقت المناسب لمراجعة السياسات وإعادة النظر ببعض المسلمات التي سادت في العقدين الماضيين، علّنا نصل إلى مقاربة جديدة تتعامل مع جذور الأزمات لا مع أعراضها الجانبية ومظاهرها المؤقتة فحسب».
وكذلك لم يعد رئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد الحاضرين من خلال كلمته أن تعمل الحكومة الحالية على إنقاذ الوضع الاجتماعي. فإن ما يتوقع منها أن تنجزه، حسب ما قال، «هو حفظ الاستقرار الداخلي، والتخفيف من التهابات التصدّع والانقسام الداخلي وتسييل المشاريع التوافقية، وتلبية ما أمكن من متطلبات القطاعات والخدمات الملحة، ومعالجة المستجدات الضاغطة وتلمس الفرص المؤاتية لتفاهم وطني جاد يضع الأمور في نصابها الصحيح ويستعيد الحياة السياسية الطبيعية». وأضاف «إذا كان المتوقع متواضعاً إلى هذا الحدّ، فإن مساءلتنا للحكومة وانتقادنا لبعض أدائها محكومان لهذا السقف الذي نجد انه يشكّل ضرورة راهنة للبلاد».
وأوضح أن تهيئة المقدمات للإصلاحات (الاقتصادية والاجتماعية) تتطلب جهداً بنيوياً وظروفاً مؤاتية في آن، «خصوصاً على مستوى إنجاز الرؤية الشاملة والعملية أو على مستوى تثبيت الاستقرار الأمني والسياسي الذي يتطلب جهوزية ردع دائمة لصدّ أي عدوان».
لكنّه في المقابل حمّل الحكومات المتعاقبة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً مسؤولية هدر المال العام تحت شعار إعادة الإعمار والإصلاح.

«الإحباط»

ووصف أحد المشاركين في المؤتمر كلمة رعد بـ«المحبطة». لكن «الإحباط» الفعلي وثّق بالأرقام في الجلسة الأولى للمؤتمر التي عنونت بـ«سياسة الأجور: آلية تحديد الأجر بمفهومه النقدي والاجتماعي بين مخاطر التضخم ومتطلبات الإنتاجية»، التي أدارها الدكتور جورج قرم، واستهلّت بمداخلة لأمين عام «جمعية المصارف» الدكتور مكرم صادر. وأشار صادر إلى أن الأجور تحدد وفق ثلاثة محفزات: الخصائص الذاتية لسوق العمل أو العمالة، وإعادة التوزيع من خلال السياسات المالية، والسياسة النقدية والاستقرار النقدي. واوضح أن أهم محدد ذاتي للأجور في القطاع المصرفي هو المهارات الوظيفية، لافتاً إلى أن المهارات العليا تتقاضى اثنتين إلى ثلاث مرات أكثر من متوسط الأجور في القطاع، في حين أن الأجور الدنيا تتقاضى 0.5 في قيمة متوسط الأجور. كما تتفاوت الأجور وفق التحصيل العلمي، علماً أن 73 في المئة من موظفي القطاع المصرفي جامعيين. وفي ما خصّ آليات إعادة التوزيع، وجد أن العمالة في القطاع العام متضخمة بين 30 و40 في المئة، بمعنى أنه يمكن الاستغناء عن هذه النسبة من الموظفين في القطاع العام سواء من المدنيين او العسكريين من دون التأثير على الإنتاجية، مفصحاً أن القطاع المصرفي يعاني من فائض عمالة بنسبة 15 في المئة. كما لفت إلى أن القدرة الشرائية محمية بفعل الاستقرار النقدي لا سيما وأن الأجور محررة بالليرة اللبنانية.
بعده استعاد رئيس»جمعية تجار بيروت» الدكتور نقولا شماس موقف الجمعية من السجال الذي دار حول الأجور، خصوصاً قبل استقالة وزير العمل الدكتور شربل نحاس. فأكد على أنهم كانوا يطالبون بتقوية القدرة الشرائية، وأنهم من مناصري فكرة «تكبير الكعكة الاقتصادية ومن ثم توزيعها على أصحاب العمل والعمال». لأن زيادة الأجور، وفق ما قال، تعني أعباء مالية إضافية مقابل إنتاجية ثابتة لم ترتفع، في حين انه يمكن توظيف الأموال الإضافية للأجور في استثمارات جديدة أو في توسيع الأعمال.
من جهته سأل النقابي علي طاهر ياسين إن كانت تكفي سلّة استهلاكية من مليون ليرة لعائلة صغيرة؟ معتبراً أن الحدّ الادنى للاجور في لبنان غير إنساني، وطالب بقانون يحصّن الأجر.
وختمت الجلسة الأولى بمداخلة لرئيس قسم الاقتصاد في «الجامعة اللبنانية ـ الأميركية» الدكتور غسان ديبة فعاد إلى السنوات 1994، و1995، و1996 التي تمت فيها زيادة الأجور على التوالي 70 في المئة، و25 في المئة و20 في المئة مقابل تضخم بلغ 8 في المئة، و10.5 في المئة و9 في المئة تباعاً، وتحسنّ الأجر الفعلي بأكثر من 90 في المئة من دون أن يصحّ المثل القائل «ما أعطي باليمين أخذ باليسار». وقد أورد تلك الأمثلة بالإضافة إلى أمثلة من دول أوروبية مثل قبرص ولوكسمبورغ وبلجيكا ومالطا، التي تعتمد تصحيحاً دورياً للأجور ليبرهن أن لا أثر لتصحيح الأجور على التضخم.
ثم لفت إلى أنه من الخطأ اعتبار أن زيادة الأجور تؤدي إلى ارتفاع في الأسعار، بل إن ما يرفع الأسعار في لبنان هو الاحتكارات، خصوصاً وأن الدراسات تبرهن أن زيادة الأجور هي دائماً محفز للاقتصاد.
وكان مقرراً أن يدير الجلسة الثانية للمؤتمر وزير المالية محمد الصفدي، لكنه اعتذر وحلّ مكانه مستشاره الدكتور أنطوان قسطنطين. وتحت عنوان «توزيع الدخل: آليات إعادة التوزيع المنصف قطاعياً وبين عناصر الإنتاج»، قدّم الباحث الاقتصادي الدكتور توفيق كسبار مداخلته، فأوضح أنه خلال السجال العام الذي دار قبيل إقرار زيادة الأجور، لم يأخذ أي من الأطراف المتنازعة في الاعتبار مسألتين أو مصطلحين هما: الحدّ الأدنى المعيشي الاجتماعي، بمعنى الحدّ الأدنى الذي يجب توفيره للفرد ليعيش بكرامة. والمصطلح الثاني هو الانتاجية، أي تحديد الأجور وفق الإنتاجية. ولفت إلى أنه لم يصر، ولا حتى لمرة واحدة في لبنان، ان قارب الحدّ الأدنى للأجور الحدّ الأدنى المعيشي.

نصف العمّال أجراء

وكشف كسبار أن نصف العمّال في لبنان هم أجراء، و10 في المئة هم موسميون، مقابل 25 في المئة مستقلون (مهندسون، محامون، أخصائيات تجميل...) وما تبقى هم أرباب عمل. ويشكل عمال القطاع العام 16 في المئة من نسبة الأجراء. وقد ذكر ذلك ليبرهن أن ثلث العمال هم عمال في القطاع الخاص، وأن هذه النسبة لم تتحرك منذ فترة طويلة، علماً أنه في الرأسمالية الناجحة تتطور أرقام الأجراء في القطاع الخاص. تماماً كما لم تتحرك تركيبة الإنتاج في الاقتصاد اللبناني، فبقيت حصة الزراعة قريبة من حصتها في السبيعنيات، مثلها مثل الصناعة والتجارة والخدمات... في حين أن المثبت عالمياً تحرّك نسب هذه القطاعات وتبدّل مراتبها كلما اعتمدت الدول خططاً إنمائية. اما في لبنان فالاعتماد ما زال على قطاعي السياحة والعقارات، لتنعدم بذلك الحياة الاقتصادية والاجتماعية خارج بيروت، وتحديداً خارج وسطها.
ختم المحور الاقتصادي بمداخلة للباحث الاقتصادي، والأستاذ المحاضر في «الجامعة الأميركية في بيروت» الدكتور جاد شعبان فانطلق من قول لأرسطو: «افضل المجتمعات هي التي تتكون من مواطنين من الطبقة الوسطى»، ليكشف أنه في لبنان انخفضت الأسر ذات الدخل المتوسط من حوالي ستين في المئة في العام 1974 إلى عشرين في المئة في العام 2004. في حين أن أغنى عشرين في المئة من اللبنانيين يستهلكون نصف مجموع الاستهلاك في لبنان. وأشار إلى أن 60 في المئة من سكان المدن في لبنان يعيشون في أحياء فقيرة. كما أوضح شعبان أن الضرائب غير المباشرة مثل البنزين والخلوي، يقع عبؤها على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ومن المتوقع ان ترتفع نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر من 28 في المئة الى حوالي 30 في المئة و 34 في المئة إذا تم رفع الضريبة على القيمة المضافة إلى 12 في المئة و15 في المئة على التوالي.
إلى هذا أكد شعبان أن الضرائب على الأرباح غير عادلة وغير فعالة في إعادة توزيع الأجر، مقدماً مثلين أولهما شركة فردية خاصة تربح 200 ألف دولار في السنة تدفع ضريبة بنسبة 20 في المئة. بينما يدفع مصرف تجاري 15 في المئة كضريبة على أرباحه التي تبلغ 200 مليون دولار في السنة.
كما قدّم أرقاما تشير إلى أن ستين في المئة من موازنة وزارة الصحة تذهب كنفقات على القطاع الخاص. ولفت أيضاً إلى أن الغلاء مرتبط بالاحتكارات و«الكارتيلات» في الأسواق الأساسية، إذ تهيمن شركة واحدة على أربعين في المئة من السوق، بينما تتحكم خمس شركات بنحو ستين في المئة من سوق مشتقات النفط.
الأرقام التي قدّمت في الجلستين هي «غيض من فيض» كما أكد الباحثون، وهم ألمحوا إلى حلول تبدو فعالة، وقد تكون جذرية في علم الاقتصاد أو حتى في التجارب الدولية. يبقى أن ننتظر نتائجها على الساحة اللبنانية لا سيما بعد توثيقها وإحالتها، كما مداخلات الجلسات التي تستمر على مدار اليوم، إلى أعضاء «كتلة الوفاء للمقاومة»، جرياً على عادة يعتمدها المركز بُعيد كل مؤتمر ينظمه في المجال.

40 ألف مهاجر سنويّاً من لبنان بسبب البطالة
يسعى المؤتمر الى المساهمة في بلورة رؤية متكاملة للشأن الاجتماعي، وفق ما جاء في مقدّمة الكتيّب الذي وزّع على الحضور، لكن النقاش في نهاية جلسة «مكافحة الفقر»، أظهر أنّ المشاركين غير مقتنعين بما قُدّم من أفكار واستراتيجيات.

وفي الجلسة، انطلق المستشار الإقليمي في «الاسكوا» اديب نعمة من شرح معنى التنمية الاجتماعية، ليعتبر أنّ مناقشة الوضع الاجتماعي حاليّاً من المفترض أن تبدأ من العنصر الأكثر أهمية، وهو مسألة الرؤية والخيارات الأساسية قبل مناقشة برنامج تدخل محدد. وبعد تحديد المحاضر هيثم عمر تفاصيل المعالجة الحقيقية لمكافحة الفقر، واعتبار أنها تتطلب إعادة النظر بالسياسة الاقتصادية لجهة تنويع الاستثمارات القطاعية واعتماد سياسات تنمية اجتماعية وغيرها، عرض نائب رئيس «جمعية مؤسسة القرض الحسن» عادل منصور موضوع القروض الصغيرة، فاعتبر أنّ التضخم وتأثيره على رأسمال المؤسسات الاقراضية، يشكّل واحداً من المخاطر المهدّدة لها. واختتم الدكتور بطرس لبكي الجلسة الثالثة، بالتطرّق الى دور التسليف الصغير في مكافحة الفقر، كونها تشكل أساساً للتنمية المستدامة، لكنها ليست عنصرا كافياً.

اختتم اليوم الأول للمؤتمر بجلسة حول «مكافحة البطالة» أدارها الدكتور الفضل شلق فأكد على وجود خطة لمكافحة الفقر، وقد عرضت على حكومات متعاقبة «لكن صيغة الدولة اللبنانية التي ما زالت مستمرّة إلى اليوم هي وراء رفضها المتكرر». وشدّد على دور الدولة اللبنانية في مكافحة البطالة، «كونها دولة قويّة وليست ضعيفة كما يُشاع». ووصف شلق لبنان بـ«المزرعة التي تنتج شباباً للتهجير فيما يتحوّل الباقون فيها الى التسوّل»، مشيراً الى أنّ «ما يضع حداً للبطالة هو الاقتصاد المنتج، لاسيما الصناعة والزراعة».

واستهل الدكتور نجيب عيسى مداخلته بالإشارة إلى وجوب سقوط النظام الطائفي في لبنان. وعرض تفاصيل دراسته حول البطالة، لافتاً إلى أن معدلات البطالة مرتفعة ومزمنة، وتطال بشكل رئيسي الشباب وأصحاب الشهادات بنسبة تتراوح بين 8 و12 في المئة.

وأوضح أنّ «40 ألف مهاجر سنويّا يتّجهون نحو الخارج، في حين يتركز نصف القوى العاملة في قطاعات متدنية الإنتاجية». وقدّم عيسى معالجة جديّة لمشكلة البطالة وذلك من خلال «وضع الإصلاحات في سياق يهدف الى التحول عن نمط النمو الحالي الى نمط آخر يقوم على التوزيع الأمثل للموارد المالية والبشرية المحلية، من أجل اقامة انتاج وطني متنوع وقادر على المنافسة». وعرض عيسى بعض الخلل في النظام التعليمي الحالي، بسبب طغيان الجانب الأكاديمي على الجانب المهني والتقني، بالإضافة الى طفرة في الاختصاصات التقليدية، والتفاوت بين التعليم الرسمي والخاصّ.

وفي السياق نفسه قدّم الدكتور جورج القصيفي شرحه حول واقع البطالة. واستند الى آخر مسح رسمي كشف أن «البطالة تطاول بشكل رئيسي الفئات العمرية الفتية، وترتفع معدّلاتها كثيرا عند الشباب الذين تقل اعمارهم عن 25 سنة. وبذلك يبلغ معدل البطالة 26 في المئة لدى الأعمار التي تتراوح بين 15 و19 سنة، ونحو 21 في المئة عند الفئة العمرية بين 20 و24 سنة».

16 آذار2012