في الدستور والقانون
1ـ حددت المادة 52 من قانون المحاسبة العمومية أصول قبول الهبات وقيدها وإنفاقها فنصت على ما يلي:
"تقبل بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء الأموال التي يقدمها للدولة الأشخاص المعنيون والحقيقيون، وتقيد في قسم الواردات من الموازنة. وإذا كانت لها وجهة إنفاق معينة فتحت لها بالطريقة نفسها اعتمادات بقيمتها في قسم النفقات".
فشمول الموازنة إذن مبدأ مكرس دستورياً، والهبات إيرادات موازنة ويجب أن تقيد في قسم الواردات من الموازنة وتخصص لتغطية عجز الموازنة، أي قصور الإيرادات المحصلة عن تغطية النفقات المصروفة، ما لم تكن لها وجهة إنفاق معينة وفقاً لإرادة الواهب فيفتح لها اعتماد في قسم النفقات من الموازنة وتخصص حصراً لتغطية هذا الاعتماد.
2ـ إلا أن الحكومة عمدت إلى تضمين مشروع قانون موازنة الدولة لعام 1999 النص التالي قبل إحالته على المجلس النيابي:
"تطبق في إنفاق اتفاقيات القروض الخارجية الجارية مع مختلف الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات الأحكام النظامية المعتمدة لدى الجهة المقرضة سواء أكان هذا الإنفاق من الجزء المحلي أم من الجزء الأجنبي على أن تخضع لرقابة ديوان المحاسبة المؤخرة".
وأتبعته في مشروع قانون موازنة العام 2000، وفي مشاريع قوانين الموازنات اللاحقة حتى العام 2005، بالنص التالي:
"تطبق في إنفاق اتفاقيات القروض الخارجية والهبات الجارية مع مختلف الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات الأحكام النظامية المعتمدة لدى الجهة المقرضة سواء أكان هذا الإنفاق من الجزء المحلي أم من الجزء الأجنبي على أن تخضع لرقابة ديوان المحاسبة المؤخرة".
3- لم يتنبه المجلس النيابي إلى خطورة هذا النص الذي كان يصدق بتصديق مشروع قانون الموازنة، واستغلت الحكومة غموضه فحمّلته أكثر مما يحتمل لأن عبارة "إنفاق" الواردة في النص لا تعني الخروج على نص المادة 52 من قانون المحاسبة العمومية لجهة كون مجلس الوزراء المرجع الصالح لقبول الهبات، ولا إخراجها من كونها إيرادات موازنة، ولا فتح اعتمادات بقيمتها عندما تكون لها وجهة إنفاق معينة وفقاً لإرادة الواهب، كما أنها لا تعني الخروج على أحكام المادة 243 من قانون المحاسبة العمومية المعدلة بموجب القانون رقم 49/87 الصادر بتاريخ 21 تشرين الثاني 1987 لجهة المراجع التي يحق لها فتح حسابات خاصة بها لدى مصرف لبنان.
وللعلم، فقد نصت المادة 243 من قانون المحاسبة العمومية على ما يلي:
"يحظر على الإدارات العامة والبلديات والمؤسسات العامة التابعة للدولة أو للبلديات وسائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العمومية فتح حسابات في المصارف الخاصة أو فتح حساب خاص بها في مصرف لبنان".
إلا أن القانون رقم 49/87 الصادر بتاريخ 21/11/1987 قد عدّل هذه المادة حيث نص على ما يلي:
"خلافاً لأي نص آخر ولاسيما أحكام قانون المحاسبة العمومية وأحكام قانون النقد والتسليف يمكن للإدارات العامة ذات الموازنات الملحقة والمؤسسات العامة والبلديات وسائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العمومية فتح حسابات جارية مستقلة بهم في مصرف لبنان".
فأجاز للإدارات العامة التالية حصراً:
ـ وزارة الاتصالات (في ما يتعلق بالاتصالات فقط(
ـ مديرية اليانصيب الوطني
ـ المديرية العامة للحبوب والشمندر السكري
فتح حسابات خاصة بها لدى مصرف لبنان.
أما الحكومات المتعاقبة فقد تمادت في مخالفة أحكام القانون رقم 49/87 المذكور وأجازت للوزارات، وحتى لبعض الوحدات في الوزارات، وحتى لموظفين في وزارات، فتح حسابات خاصة بها وبهم لدى مصرف لبنان بحيث أصبح لكل وزارة أكثر من حساب لدى هذا المصرف الذي كان يفترض بالقيمين على إدارته أن يرفضوا فتح حسابات لديه بطريقة مخالفة لأحكام القانون، الأمر الذي أدى إلى تعدد الحسابات وتعذر توحيد نتائجها السنوية.
4- وقد استمرت الحكومات المتعاقبة منذ العام 2005 بتطبيق النص ذاته الوارد في قانون موازنة العام 2005، بالرغم من عدم صدور قوانين موازنات بعد ذلك العام يجيز لها ذلك على اعتبار أن مفعول مواد قانون موازنة ما ينتهي بانتهاء السنة المالية العائدة لهذه الموازنة. وبذلك تكون الهبات الخارجية (والقروض بالطبع) التي قبلت بعد العام 2005 مخالفة لأحكام المادة 83 من الدستور ولأحكام المادتين 51 و52 من قانون المحاسبة العمومية.
في الوقائع
1- لقد تمادت الحكومات المتعاقبة في مخالفة نص المادة 52 من قانون المحاسبة العمومية، وفي مخالفة نص المادة 243 المعدلة من قانون المحاسبة العمومية، وفي التوسع بمفهوم عبارة "إنفاق" التي يجري إدراجها في قوانين الموازنة منذ العام 2000 في ما خص الهبات خلافاً لأحكام المادة الخامسة من قانون المحاسبة العمومية التي تحدد مضمون قانون الموازنة بنصها على ما يلي:
"قانون الموازنة هو النص المتضمن إقرار السلطة التشريعية لمشروع الموازنة. يحتوي هذا القانون على أحكام أساسية تقضي بتقدير النفقات والواردات وإجازة الجباية وفتح الاعتمادات للإنفاق وعلى أحكام خاصة تقتصر على ما له علاقة مباشرة بتنفيذ الموازنة".
- فقبلت هبات مقدمة إلى الدولة في هيئات رديفة (الهيئة العليا للإغاثة)
ـ ولم تقيدها بكاملها في قسم الواردات من الموازنة. فمن أصل هبات بقيمة أكثر من 144 مليار ليرة لبنانية منحت للدولة خلال العام 2005 لم يقيد في الموازنة كواردات محصلة سوى حوالي 15 مليون ليرة لبنانية!!!
- وأودعتها في حسابات خاصة لدى مصرف لبنان خلافاً لأحكام المادة 243 من قانون المحاسبة العمومية المعدلة بموجب القانون رقم 49/87 الصادر بتاريخ 21 تشرين الثاني 1987.
2ـ تجدر الإشارة إلى أن تنسيب الهبة بموجب مرسوم قبولها، أي قيدها في قسم الواردات من الموازنة، لا يعني تحصيلها حكماً وإدخالها في حساب الخزينة (الصندوق أو مصرف لبنان). فمن أصل هبات منسّبة عام 2005 بقيمة /281,428,860/ ليرة لم يدخل في حساب الخزينة سوى مبلغ /15,075,000/ ليرة.
3- كما تجدر الإشارة إلى أن تنسيب الهبة، وحتى إدخالها في حساب الخزينة كواردات موازنة، لا يعني إنفاقها وفقاً للأصول، الأمر الذي يستوجب الدخول إلى حسابات كل هبة ومتابعتها منذ قيدها حتى إنفاقها بكاملها، ولاسيما إذا تم تحويلها إلى مجلس الإنماء والإعمار أو إلى إحدى الإدارات الرديفة.
خلاصة
لا يكتمل هذا التقرير إلا ببيان رأي ديوان المحاسبة في موضوع الهبات:
1- فقد أفاد الديوان في تقريره السنوي لعام 2005 بأنه "يقتضي التمييز بين الهبات التالية:
- الهبات التي يتولاها مجلس الإنماء والإعمار ويمكن لديوان المحاسبة ممارسة الرقابة عليها من خلال رقابته المؤخرة على حسابات المجلس.
- الهبات التي يتولى محتسب المالية المركزي مسك حساباتها وهي تظهر في حساب مهمته ويمكن لديوان المحاسبة ممارسة الرقابة عليها من خلال رقابته المؤخرة على حساب مهمة محتسب المالية المركزي.
- الهبات التي تتولاها مباشرة الوزارات والإدارات المستفيدة ولا تظهر حساباتها في حسابات مجلس الإنماء والإعمار ولا في قيود محتسب المالية المركزي، إذ تفتح لها وفقاً لقوانينها الخاصة حسابات خاصة في مصرف لبنان خارج حساب الخزينة رقم 36 تتولى إدارتها الجهة المستفيدة بالتنسيق مع الواهب".
2- وأكد الديوان على ضرورة "إخضاع الهبات المشار إليها لرقابة ديوان المحاسبة المؤخرة وضرورة استصدار النصوص التنظيمية اللازمة لتحديد آلية إرسال حساباتها والمستندات والمعلومات المتعلقة بها إلى ديوان المحاسبة تمكيناً له من إجراء الرقابة التي أناطتها به قوانين الموازنات المتعاقبة".
ويتبين مما سبق أن:
1- ديوان المحاسبة أغفل التطرق إلى الهبات التي يتم قبولها في الهيئة العليا للإغاثة، بالرغم من كونها تشكل معظم الهبات التي تقدم إلى الدولة.
2- رقابة ديوان المحاسبة على الهبات لم تمارس على الإطلاق:
- فهو لم يمارس أي رقابة مؤخرة على حسابات مجلس الإنماء والإعمار،
- ولم يمارس أي رقابة مؤخرة على حسابات الهيئة العليا للإغاثة،
- ولم يمارس أي رقابة مؤخرة على حسابات محتسب المالية المركزي منذ العام 1996،
وحتى بالنسبة إلى الحسابات السابقة لعام 1996 فإن رقابة الديوان لم تتطرق إلى موضوع الهبات في قراراته القضائية العشرة الصادرة بشأن حسابات محتسب المالية المركزي العائدة للأعوام 1993ـ1996.
3- معالجة موضوع الهبات بصورة جذرية تقتضي العودة إلى الأصول، أي إلى قانون المحاسبة العمومية، وتطبيق أحكام المادة 52 منه بحذافيرها.
4- تقتضي هذه المعالجة إلغاء القرارات المتخذة في الهيئة العليا للإغاثة وتخول الهيئة صلاحية قبول الهبات.
5- وتقتضي هذه المعالجة أخيراً عدم القبول بتضمين أي قانون موازنة نصاً يجيز إنفاق اتفاقيات القروض والهبات الخارجية وفقاً لأحكام خاصة مخالفة لأحكام قانون المحاسبة العمومية.