ما من صور خاصة في المكتب الفسيح الذي خصص لمدير «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين - الأونروا» في لبنان كالعادة، فسلفاتوري لومباردو جمعها في صندوق صغير ليغادر اليوم مهامه، ويطوي أربع سنوات عنوانها «محاولة رفع تقديمات الوكالة». لكنّه يترك كرسيّه و«مازال هناك الكثير للقيام به»، وفق ما يقول. ولعلّه لذلك أبقى جدول أعماله (مليئاً) حتى يوم أمس، خاتماً مهماته بتوقيع اتفاقية مع «مركز الرعاية الدائمة» لمعالجة الأطفال الفلسطينيين المرضى بالتلاسيميا. غير أن هذا التوقيع ليس أكثر ما يفخر به، بل التقديمات التي سعى إليها لمعالجة مرضى السرطان من الفلسطينيين، وبعدها الدراسة المشتركة التي أعدّتها الوكالة و«الجامعة الأميركية في بيروت» حول الأوضاع المعيشية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين إلى لبنان.
قبل المغادرة، كان حديث لـ«السفير» بدأه من الجغرافيا التي تجمع حول بحر واحد بلده إيطاليا ولبنان، فكانت طبيعة وناس شرق أوسطيين عرف تماماً كيف يتعامل معهم. أما على صعيد المهمة التي كلّف بها، فشكلت له نوعاً من التحدي لتحسين مستوى حياة الفلسطينيين، في البلد الذي تضيع فيه أبسط حقوقهم.
ويستعيد لومباردو ما حاول إنجازه طوال الأربع سنوات. يشير أولاً إلى نهر البارد، المخيم الذي دمّر تماماً والذي يشيّد من جديد ببطء. يصف العمل على إعادة بنائه حتى الآن بـ«الجبار»، مقارناً الأعمال بما توافر من أموال، ويعترف أنه مازال هناك الكثير لتحقيقه في هذا المجال.
وهو يدرج الدراسة التي أعدتها الوكالة و«الجامعة الأميركية في بيروت» أيضاً في خانة الانجازات، لكونها شكّلت أساساً كان لا بدّ منه للانطلاق بالأعمال سواء على صعيد البنى التحتية أم على صعيد الوضع الصحي والعلمي والمهني للفلسطينيين في لبنان. ويشرح: «حين تسلّمت مهماتي لم يكن هناك أرقام واضحة في شأن المخيمات أو في شأن الفلسطينيين عموماً. فلا رقم دقيقاً حول أعدادهم الفعلية في لبنان، ولا رقم حول أوضاعهم الصحية ولا جداول بأعداد الطلاب والتلاميذ أو المتسربين منهم... وكان لا بدّ من قاعدة بيانات نرسم من خلالها الخطط ونرصد لها الميزانيات، لتصرف الأموال في أماكنها المناسبة. ولأنها شكّلت مرجعاً أساسياً لعملنا اعتبر هذه الدراسة إنجازاً».
وبالاستناد إلى الدراسة أطلقت «الأونروا» مشروع «الكرامة للجميع» الذي شكل عنواناً لعملية الإصلاح التي اعتمدتها في مختلف المخيمات، من بنى تحتية وترميم للمنازل، وتأهيل الصرف الصحي ومعالجة المياه والكهرباء، وغيرها من الأمور التي يرى فيها لومباردو «أشياء قليلة ولكن أساسية».
فما فعلته الوكالة في المجال أقلّ شأناً من عملية إصلاح مكتب الوكالة نفسه، كما يقول مديرها، إذ تحوّلت من شبه دائرة لتسيير أمور الفلسطينيين إلى مرجع أكثر انفتاحاً على أوضاعهم وشفافية وحاملاً حقوقهم. من هنا، يفخر لومباردو أنه كان يبقي باب مكتبه دائماً مفتوحاً. ويصرّ على الإطلاع حتى على أصغر الشكاوى والاعتراضات، ولا ينفي أنه كان هناك دائماً من يعترض ومن يشتكي، لكنه مرتاح الضمير «لأنني تصرّفت بكل ما أوتيت من قوة وما توافر لي من وسائل لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين».
مقابل الإنجازات، يعترف لومباردو أن حملة المناصرة التي أطلقتها الوكالة لم تأت بثمار بعد، وهو يحمل جزءاً من هذا التأخير إلى الدولة اللبنانية، حكومة ومجلس نواب، «فهناك فلسطينيون حياتهم بائسة بسبب عدم وضع قراري مجلس النواب لناحية العمل وتعويض نهاية الخدمة حيّز التنفيذ وقد تعاقب وزيران على وزارة العمل من دون تحريك الملف». وأوضح أنه طالب باسم الوكالة وضع القرارين حيّز التنفيذ، لكن حتى الساعة لم يلق التجاوب المطلوب.
وبالحديث عن إدارة اللبنانيين للملف الفلسطيني، يشير لومباردو إلى عدم وجود رؤية واضحة لدى الدولة اللبنانيين في إدارة هذا الملف. ويعتبر أن إدارته أمنياً، لن تعود بالنفع على المجتمع اللبناني، بل إن الفلسطينيين لا بدّ أن يشكلوا خطراً أمنياً إذا استمرت عملية منعهم من «الحياة». وينبّه إلى أن «الشباب الفلسطيني لديه الطموح والأحلام نفسها التي تراود أي شاب في العالم، مع فارق أنه ممنوع من العمل في لبنان ومن تملّك شقة. وأسباب هذا المنع ليست سياسية بقدر ما هي تمييزية، ذاك لأنه لاجئ».
خلال ولايته في لبنان سارت شائعات حول محاولة حلّ الوكالة وإبقاء الفلسطينيين في الأماكن التي لجأوا إليها، وهي شائعات يتم التداول بها بين الحين والآخر. يعتبر لومباردو أن أعمال الوكالة أفضل ردّ لدحضها لاسيما خططها في مجال الصحة والتعليم وإعادة تأهيل البنى التحتية. ويصرّ على أن «الأونروا» باقية مادامت الاطراف المعنية لم تجد حلاً للقضية الفلسطينية، مؤكداً أن عجز الوكالة ليــس دليلاً على محاولة حلّها، بل هو ناتج من ارتفاع المصــاريف والمــشاكل المادية التي يواجهها المانحون في بلدانهم. ويقدّر نسبة عجز الوكالة في لبنان بـ65 مليون دولار.
يغادر لومباردو منصبه في لبنان إلى منصب أعلى في الوكالة نفسها في مركزها الرئيسي في القدس، حيث سيصبح مدير العلاقات العامة والتواصل في الرئاسة العامة، محتلاً بذلك المنصب الثالث بعد مفوض الوكالة ونائبه.
قبل أن يغادر مكتبه، يترك لومباردو رسالة إلى خلفه يوصيه بأن يبقي بابه مفتوحاً، وأن يعمل بجهد على مشروع «الكرامة للجميع» الذي لم يتسنَّ له إتمامه، لأن قصص الفلسطينيين ليست قصصاً تستدعي الشفقة بل هي قصص إنسانية تتلون بألوان الفرح كما بألوان الحزن. ويتوجّه إلى الدولة اللبنانية مناشداً مسؤوليها بضرورة حلّ الملف الفلسطيني من منظار اقتصادي واجتماعي وإنساني، لأن الأوضاع المزرية التي يعيشها الفلسطينيون في لبنان لا تنال منهم بل تُسجّل على لبنان. كما يدعو «لجنة الحوار اللبناني ـ الفلسطيني إلى أداء دور فعال على أرض الواقع».
إلى ذلك، يطلب لومباردو من خلفه التفاؤل لأن المشاكل التي سوف تعترضه في مهماته قد تصيبه بالإحباط، لكن لا شيء مستحيلاً «إذا آمنا بوكالة أفضل»، كما يقول.
يغادر لومباردو لبنان اليوم، فيما يتذكّر الفلسطينيون خصوصاً والعرب عموماً النكبة، وهو للمناسبة يدعوهم إلى البحث عن حلول بدل التعامل، كما دائماً، مع آثارها. سيعود إلى لبنان حين تقتضي مهماته الجديدة ذلك، لكنّه خلال عمله الجديد لن ينسى تجربته فيه، وسينقل إلى زملائه الجدد لحظات أجبرته على التواضع، وأبرزها لقاؤه وفلسطينيين مرضى بالسرطان في لبنان، الذين حنا رأسه أمامهم.
15 أيار2012