دراسة حول إنشاء إدارات مناطقية للتنمية المتكاملة: رسم حدود السلطات والصلاحيات.. تعزيزاً للديموقراطية

سامي عطا الله

من أجل تعزيز المشاركة الديموقراطية التي تؤدّي إلى تنمية متكاملة، يجب إنشاء مجالس مناطقية منتخبة تتمتع بالتفويض والسلطة المالية لتحقيق ذلك. على أن يتم ذلك على أساس ترسيم جغرافي جديد يأخذ بعين الاعتبار مجموعة من المعايير التنموية. إنّ البلديات واتحادات البلديات غير قادرة حالياً على تحقيق هذا الهدف.

البلديات: عددها كبير وحجمها صغير وقدراتها ضعيفة

وفقاً للمرسوم الاشتراعي الرقم 118 لعام 1977 أنيطت بالبلديات مجموعة واسعة من المهمات. تشير المادة 49 إلى أنّ كل عمل ذي طابع أو منفعة عامة في النطاق البلدي هو من اختصاص المجلس البلدي. ولكن في الواقع، تبقى البلديات مقيّدة إدارياً ومالياً، الأمر الذي يحصر خدماتها بجزء صغير من المسؤوليات المناطة بها.
إن عدد البلديات في لبنان، الذي زاد من 718 في العام 1998 إلى 985 في العام 2012، يعتبر مرتفعاً بالنسبة إلى بلد يبلغ عدد سكّانه 4.5 ملايين نسمة تتوزّع على مساحة قدرها 10,452 كم2. فضلاً عن ذلك، يقلّ عدد السكان المسجلين في 70 في المئة من هذه البلديات عن 4,000 نسمة، ما يعني أنّ لهذه البلديات قاعدة اقتصادية ضعيفة. وليس هناك موظف واحد في ما يقارب 400 بلدية، فيما تعاني 400 بلدية أخرى من إدارة بلدية ضعيفة جداً. هذا وإن البلديات القليلة التي تتمتع بالموارد المالية لتوظيف فريق عمل مؤهّل تواجه عوائق بيروقراطية تصعّب عليها عملية التوظيف. وهناك ما لا يقلّ عن 5 وزارات وهيئات - وزارة الداخلية والبلديات، وديوان المحاسبة، ومجلس الخدمة المدنية، والمديرية العامة للتنظيم المدني في وزارة الأشغال العامة، ووزارة المالية - تحكم القطاع.
غالبية البلديات لا تملك الموارد المالية لتنفيذ المشاريع التنموية. وصل إجمالي قيمة الإنفاق - الجاري والرأسمالي - في القطاع البلدي إلى 213 مليون دولار أميركي فقط في العام 2008، ما يشكّل 5.6 في المئة من مجمل إنفاق الحكومة المركزية (من دون احتساب الدين). وبلغ إجمالي الدخل البلدي كنسبة من إجمالي الدخل العام 6 في المئة تقريباً في العام 2008، ما هو أقلّ من النسبة المتراوحة بين 12 في المئة و15 في المئة في البلدان المشابهة التي يمكن مقارنتها مع لبنان.
فضلاً عن ذلك، تبقى حصة الدخل البلدي المباشر من إجمالي الدخل منخفضة. يقدّر مثلاً بأنّ الإيرادات المباشرة لعام 2008 تجاوزت ثلث إجمالي الدخل بقليل فقط، ما يعيق الاستقلال المالي للبلديات. عدا ذلك، تعتمد البلديات إلى حدّ كبير على نسبة ضئيلة من الرسوم المحصلة. من بين الرسوم الـ36 التي حصّلتها البلديات مباشرة في العام 2005، شكّلت ثلاثة رسوم - رسم القيمة التأجيرية، ورسم الصرف الصحي والأرصفة، ورسم تراخيص البناء 85 في المئة من إجمالي الإيرادات وهي جميعها مرتبطة مباشرة بالملكية العقارية.
أكثر من ذلك، يعتمد العديد من البلديات اعتمادا أوّليا على الصندوق البلدي المستقلّ. ففي العام 2008، شكّلت عائدات الصندوق 48 في المئة من إجمالي عائدات البلديات. وكان مصدر حوالي 90 في المئة من إيرادات البلديات الصغيرة من الصندوق البلدي المستقلّ، ما يجعلها شديدة الاعتماد على تحويلات الحكومة المركزية.
في الواقع، وقعت البلديات ضحية حلقة مفرغة، إذ أنّ الكثير منها يعاني من غياب الموظفين لتحصيل الرسوم والضرائب، وهي بغياب الدخل البلدي غير قادرة على التوظيف. لذلك، فإن معظم البلديات غير قادر على تقديم الخدمات على الرغم من نطاق الصلاحيات الواسع التي يمنحها إياه القانون.

اتحادات البلديات: ضعيفة إدارياً وغير مستقلّة مالياً ومقيّدة جغرافياً

تتمتّع الاتحادات البلدية بصلاحيات عديدة. استناداً إلى المادة 126، يُسمح لها بالقيام بالمشاريع العامّة ذات المنافع المشتركة التي تستفيد منها جميع البلديات الأعضاء أو بعضها. تشتمل هذه المشاريع على الطرق، والمجاري، والنفايات، والمسالخ، والإطفاء، وتنظيم المواصلات، والتعاونيات، والأسواق. على الرغم من أنّ بعض الاتحادات قد استطاع تقديم الخدمات وتنفيذ المشاريع التنموية، إلا أنّ عملها يبقى مقيّداً بتداخل الصلاحيات بين البلديات والاتحادات، والقدرات الإدارية الضعيفة، وإجراءات التوظيف المعقدة، والموارد المالية الضئيلة لتحقيق المشاريع التنموية.
بات غياب الترسيم الواضح للمسؤوليات بين البلديات واتحادات البلديات مصدر نزاع في ما بينهما. تتداخل مسؤوليات الاتحادات وفق المادة 26 مع مسؤوليات البلديات التي تشمل، بحسب المادتين 49 و50 من المرسوم الاشتراعي الرقم 118 لعام 1977، إنشاء الأسواق وأنظمة الصرف الصحي ومعالجة النفايات وتنظيم المواصلات. ففي ظلّ غياب التكليف الواضح والآلية المناسبة لمعالجة المشكلة، بات بعض الاتحادات مشلول الحركة نتيجة لهذا التنازع.
على الرغم من وجود ثلاثةأجهزة - جهاز هندسي وصحي، وجهاز إداري ومالي، وجهاز شرطة - لمعاونة رئيس الاتحاد، غير أنّ بعض الاتحادات يفتقر إلى الموارد البشرية والمالية لتوظيف طاقم عمل مؤهّل.
كما في حال البلديات، تخضع الاتحادات لسلطة ورقابة عدد من الوزارات والهيئات الحكومية، الأمر الذي خفض إلى حدّ بعيد من فعاليتها. يحتاج رؤساء الاتحادات إلى موافقة لإنفاق مبلغ تفوق قيمته 3 ملايين ليرة لبنانية، وهي عتبة إنفاق منخفضة جداً. إضافة إلى تلك المتطلّبات، ما يعيق عمل الاتحاد أيضاً هو الحكومة المركزية نفسها. فعلى سبيل المثال، قدّم اتحاد بلديات الضنّية طلباً لإنشاء ثلاث محميات طبيعية منذ خمسة أعوام، ولا يزال حتى اليوم ينتظرالحصول على ردّ.
إضافة إلى ذلك، لا تتمتّع الاتحادات بالاستقلالية المالية لفرض أو تحصيل الضرائب والرسوم الجديدة. في الواقع، تواجه اتحادات البلديات تحدّيات مالية عديدة. أولاً، عدد كبير من البلديات الأعضاء لا يدفع رسوم عضويته للاتحاد. وفقاً للأرقام الصادرة في العام 2008، لم تشكّل رسوم العضوية سوى 10 في المئة من إجمالي إيرادات الاتحادات. بالتالي، أصبحت الاتحادات معتمدة مالياً على الصندوق البلدي المستقلّ الذي يشكّل 70 في المئة من إيراداتها. تفاوت إجمالي الأموال المحوّلة إلى الاتحادات تفاوتا كبيرا من عام إلى آخر، ما أدّى إلى منع الاتحادات من القدرة على التخطيط لمشاريع تنموية. تراوح هذا التقلّب ما بين 5 مليارات ليرة لبنانية في العامين 1995 و1996 ليبلغ 20 ضعف هذا المبلغ أي 100 مليار في عامي 1998/1999. ومؤخّراً، استقرّت الحوالات إلى الاتحادات على ما يقارب 50 مليار ليرة لبنانية في عام 2010 أي ما يساوي مليار ليرة لبنانية للاتحاد الواحد. وحتى لو تم صرف كامل هذا المبلغ على التنمية، فهو يظل يشكل نسبة منخفضة للغاية ليكون لها أثر على الاستجابة للحاجات التنموية للسكان.
بالإضافة إلى تقلّب المبالغ والحصص المخصصة للاتحادات من الصندوق البلدي المستقلّ، تفاقمت المشكلة بسبب معايير التوزيع. على الرغم من أن 25 في المئة من حصّة الاتحادات موزّعٌ وفقاً لعدد السكان المسجّلين لدعم الموازنة، فيما يذهب 75 في المئة للمشاريع التنموية كما هو محدد في المرسوم 1917 لعام 1979، إلا أنّ الحكومة عدّلت الصيغة بطريقتين على حساب التنمية. أولاً، رفعت من حصّة الاتحادات بالارتكاز على عدد السكان المسجّلين لتبلغ نسبة قدرها 60 في المئة. ما أدّى إلى مزيد من سوء التخصيص للموارد بسبب الفجوة بين عدد السكان المسجّلين والسكان المقيمين. من بين 42 اتحاداً، يحصل 11 اتحاداً على نصف ما ينبغي أن يتلقّاه، فيما يحصل الـ23 المتبقّون على ضعف ما هو مخصّص لهم. ثانياً، توزّع الحكومة الـ40 في المئة المتبقّية من الصندوق البلدي المستقلّ على الاتحادات بالارتكاز على عدد البلديات الأعضاء في الاتحاد، بدلاً من اتخاذ المشاريع التنموية كالمعيار الأساسي. في الواقع، تقوم الحكومة بالتضحية بالهدف التنموي وتكافئ الاتحادات التي تضمّ العدد الاكبر من الأعضاء من دون أي تعليل.
هذا وتتضاعف مشاكل اتحادات البلديات بسبب قيود جغرافية هامة. رغم المزاعم بإمكانية تحوّل الاتحادات إلى مجالس أقضية منتخبة أو حتى استبدال هذه الأخيرة كما هو مشار إليه في اتفاق الطائف، إلا أن هناك 13 قضاءً فقط يضمّ اتحاداً واحداً يتطابق مع حدوده الإدارية فيما الأقضية الـ12 المتبقية تضمّ اتحادين أو أكثر. حتى في حالة الأقضية الـ13 التي تضمّ اتحاداً واحداً، يعتبر 8 منها فقط شاملاً، أي يحتوي على 80 في المئة من البلديات والسكان المسجّلين في القضاء. وتستثني الاتحادات الأخرى ما بين 23% و85% من البلديات في أقضيتها.
والأمر لا يقتصر على عدم تمتّع معظم الاتحادات بالسلطة الحصرية على مناطقها فحسب، بل انّ نصفها غير متجاور جغرافياً، ما يمنعها من القيام بالتخطيط التنموي أو المكاني ضمن منطقة موحّدة. كما أن 11 منها مؤلّف من 3 كيانات جغرافية منفصلة أو أكثر، ما يجعل عملية التخطيط غير عملية.

توصيات

من أجل تحقيق التنمية في لبنان، هناك حاجة للتفكير في مقاربة متكاملة عوضاً عن تلك المتوازنة للتنمية بحيث تصبح المناطق الفقيرة مرتبطة على نحو أفضل بالمناطق الأكثر ثراءً. وهذا ما هو أكثر تعقيداً من مجرد تحسين ظروف المناطق الأكثر فقراً. المقاربة المتكاملة تتطلب مستوىً جديدا من الحكم على الصعيد الإقليمي. فالمؤسسات الحالية هي غير قادرةعلى مواجهة هذا التحدي. من هنا الدعوة لإنشاء مجالس مناطقية موكلة بتحقيق التنمية المتكاملة على أساس المعايير الأربعة التالية:

1 ـ تحديد الصلاحيات والمسؤوليات ما بين مستويات الحكم

يجب تكليف المجالس المناطقية بمهمة وضع السياسات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والبيئية لتحقيق التنمية المناطقية المتكاملة. وبناءً على الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية (schema directeur) لمجلس الإنماء والإعمار، على الإدارات المناطقية أن تصبح قنوات تطبيق الخطة الوطنية للمناطق.
بالاستناد إلى هذا المنطق، هناك حاجة لإعادة توزيع صلاحيات ومسؤوليات البلديات والاتحادات والمجالس المناطقية والحكومة المركزية. على سبيل المثال، على الحكومة المركزية أن تكون مسؤولة عن المهمات ذات الطابع الوطني مثل التجارة والدفاع والشؤون الخارجية والقانون الجنائي والمدني والسياسة الصناعية، فيما تتولى البلديات الخدمات المحلّية المتلائمة مع حجم «المنطقة المستفيدة». يشمل ذلك التنظيفات وتزفيت الطرق الثانوية وجمع النفايات والإنارة، إلخ. أما الإدارات االمناطقية، فينبغي أن تكون مسؤولة عن التنمية المناطقية المتكاملة والتي يجب أن تتعدى مشاريع البنى التحتية. ينبغي إعادة النظر في الدور الحالي وفي مهمات اتحادات البلديات على ضوء دور الإدارات المناطقية لكي تصبح الأدوار متكاملة عوضاً عن أن تكون مزدوجة. ينبغي تشارك بعض المهمات بين الحكومة المركزية والإدارات المناطقية، والإدارات المناطقية والاتحادات، والإدارات المناطقية والإدارات المحلّية. على الحكومة أن تشكّل لجنة تتولّى تحديد هذه المسؤوليات ما بين مختلف مستويات الحكم بما فيها المسؤوليات التنظيمية والسياسية والخدماتية.
من أجل تسهيل العمل التنموي للمجالس المناطقية، هناك حاجة لإنشاء وحدة فنية لتقديم المشورة والخبرة في القضايا الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والبيئية الضرورية لتحقيق التنمية المتكاملة. يمكن أن تكون هذه الوحدة كياناً مستقلا أو وحدة من ضمن الإدارات المناطقية.

إعادة رسم حدود السلطات المناطقية

على الرغم من أن اتفاق الطائف ينصّ على إنشاء مجالس أقضية منتخبة، غير أنّ القضاء ليس بالضرورة الحدّ الأنسب للتنمية. لذلك، ينبغي إعادة رسم الحدود الجغرافية للمجالس المناطقية بالارتكاز على معايير تنموية مثل الطوبوغرافيا والديموغرافيا والبيئة والاقتصاد وغيرها من المعايير ذات الصلة. ينبغي على الحكومة إنشاء لجنة تكون مهمّتها تحديد المعايير الأساسية والتوصية بخريطة للمجالس المناطقية. ما يمكن أن يخدم كنقطة انطلاق جيّدة هو الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية (schema directeur) فتستخدم كقاعدة لرسم الحدود.

ضمان السلطة المالية

لتكون المجالس المناطقية فعّالة في إتمام مسؤولياتها، عليها أن تتمتّع بالسلطة المالية لتحديد الضريبة وتحصيلها. بالتالي، هناك حاجة إلى إعادة تخصيص بعض الضرائب والرسوم المحصّلة حالياً مباشرة من قبل البلديات للمجالس المناطقية عند الحاجة إلى وفورات الحجم. على المجالس المناطقية التمتّع بصلاحية إدارة الضرائب لكي تتمكّن من تحصيل هذه الضرائب بفعالية. على الحكومة أن تنشئ لجنة لتحديد هذه الضرائب والرسوم.
رغم أنّ الضرائب والرسوم المباشرة تضمن حدّ معيّن من الاستقلالية المالية، إلا أنّه من غير المرجّح أن تتكفّل بتغطية كل النفقات المطلوبة للإدارات المناطقية. يجب تحويل مصدرين للإيرادات إليها: أولهما من الصندوق البلدي المستقلّ. ثانياً، هنالك ما يقدّر بمليار دولار أميركي من الإيرادات المحصّلة عبر السنوات من قبل وزارة الاتصالات والتي لم تُوزّع على الإدارات المحلّية. وهذا مبلغ كبير يمكن توزيعه على الإدارات المناطقية لإطلاق الخطط التنموية وتنفيذ بعض المشاريع.

انتخاب أعضاء المجالس المناطقية ورؤسائها مباشرة

ينبغي انتخاب أعضاء المجالس المناطقية ورؤسائها مباشرة من قبل المواطنين. فهذا لا يعزّز المشاركة الديموقراطية فحسب بل يجعل المنتخبين خاضعين للمحاسبة المباشرة من قبل المواطنين. إن إحدى المشكلات الكبرى في لبنان تكمن في عدم القدرة على انتخاب رؤساء أهم المؤسسات السياسية مباشرة، ما يفسح المجال للمشاحنات والصفقات بين النخب السياسية على حساب احتياجات الشعب. وبما أنّ القانون الانتخابي هو الذي يحدّد حوافز السياسيين واستعدادهم لتأمين المنافع العامة، فهو يجب أن يكون مرتكزاً على نظام تمثيل نسبي من أجل تقديم برامج شاملة تعزّز التنمية.

المدير التنفيذي للمركز اللبناني للدراسات.