تفريخ الشركات الجامعية

تراجعت حصّة الجامعة اللبنانية من التعليم العالي في لبنان لمصلحة القطاع الخاص، الذي انتشرت شركاته الساعية إلى الربح على الخريطة الديموغرافية للبنان. استند هذا الانتشار إلى دعم سياسي وديني وطائفي ومذهبي، لكن هذا الدعم لم يردم الفجوة في كلفة التعليم، التي راوحت بين 1380 دولاراً و15500 دولار على الطالب الواحد
محمد وهبة

الجامعات في لبنان تشبه خريطة الديموغرافيا المحليّة بكل تداخلاتها وتعقيداتها. هي نسخة أكاديمية لرجال الأعمال، مبنيّة على الفوضى برعاية سياسية. لهذا السبب، قد لا يجد مفهوم «حوكمة الجامعات» الذي يسوّق له البنك الدولي تحت عنوان «الجامعات تحت المجهر: من أجل تحديث التعليم العالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، حيّزاً في لبنان، بسبب الممانعة السياسية ـــــ الطائفية ـــــ التجارية لأي نقاش يتصل بقطاع التعليم.

ففي مقابل الجامعة اللبنانية، جرى تفريخ عشرات الجامعات الخاصة الساعية إلى تحقيق الأرباح، وأداء وظائف تخدم النظام القائم ونمطه الاقتصادي، ليرتفع العدد الإجمالي للجامعات الخاصة إلى 41 جامعة، غالبيتها بدأ يعمل خلال العقدين الأخيرين بصورة غير شرعية، فضلاً عن وجود مخالفات يومية تتعلق بفتح فروع جامعية لتعليم اختصاصات جديدة من دون ترخيص!
يعرّف البنك الدولي التعليم الجامعي في لبنان بأنه «نظام مهجن فريد في منطقة الشرق الأوسط»، ويشير إلى أنه في عام 2009 كان طلاب لبنان يتوزّعون بين الجامعة اللبنانية ونحو 27 جامعة خاصة، و12 معهداً عالياً متخصصاً. وبحسب دراسة أجراها الوزير السابق شربل نحاس، فإن عدد طلاب الجامعات في لبنان كان في عام 2009 نحو 160364 طالباً، تستحوذ الجامعة اللبنانية على 45% منهم. أما في نهاية 2011، فقد ارتفع عدد الجامعات والمعاهد الجامعية في لبنان إلى 41 جامعة، وفق المدير العام للتعليم العالي أحمد الجمّال.
لا يخفى على أحد كيف جرى تفريخ كل هذه الجامعات الخاصة خلال عقدين من الزمن، ولأي أهداف. فقد كان تمويل الجامعة اللبنانية من الخزينة العامة، فيما اعتمدت الجامعات الخاصة على الرسوم الدراسية والهبات الدينية والخاصة، وقسم من التمويل الحكومي، والمنح الدولية، إضافة إلى القروض المصرفية. وبالتالي كان تحقيق الأرباح هو الهدف الأساسي الذي أُنشئت من أجله غالبية هذه الجامعات، فضلاً عن المحاصصات على اساس التوزيع الطائفي والمناطقي للجامعات.
ما يعزّز هذه الصورة، أن الإنفاق على التعليم العالي بلغ 1323 مليار ليرة في عام 2009، وفق دراسة نحاس، فيما كانت تغطية هذا الإنفاق من القطاع الخاص توازي 3% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل تغطية من الخزينة العامة توازي 0.7% من الناتج. وبالتالي بلغ إنفاق الطالب الواحد في القطاع الخاص، كمعدل وسطي، نحو 5 ملايين ليرة، مقابل إنفاق رسمي بقيمة 1.1 مليون ليرة، لكن التعليم العالي في القطاع الخاص استمر خلال هذه الفترة في استقطاب الطلاب بنسبة أكبر من قدرة التعليم العالي الرسمي، أي الجامعة اللبنانية، فإحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء، تشير إلى أن العدد الإجمالي للطلاب ارتفع في عام 2010 إلى 180850 طالباً، تستحوذ الجامعة اللبنانية على 40.2% منهم، أي إن الحصّة السوقية للجامعات الخاصة زادت من 55% إلى 59.8% من عدد الطلاب الإجمالي.
هذه المفارقة غريبة جداً في بلد يزداد فقراً، وتزداد فيه القدرة الشرائية للأسر ضعفاً، لكن نحاس يردّ هذا الأمر إلى تحويلات المغتربين التي موّلت الإنفاق الخاص على التعليم. وفي الواقع، إن هذه النتيجة تعني أيضاً، ذوبان الخط الفاصل بين رسالة التعليم وربحية الشركات، إذ لم يعد ممكناً التمييز بينهما، فيما غابت الدولة عن أداء الدور الأساسي لها في ضبط هذا المجال، حتى بات صعباً أن تتنافس الجامعة اللبنانية مع الجامعات الخاصة؛ فالأولى، بحسب المدير العام للتعليم الجامعي العالي أحمد الجمال، لديها قدرة استيعابية محدودة تصل إلى 70 ألف طالب كحدّ أقصى، وبالتالي لا يمكنها استيعاب كل الطلاب، ولا سيما في اختصاصات معيّنة. أما الثانية، فغالبيتها لا يلتزم بالمعايير التعليمية المتعارف عليها عالمياً، إذ إن بعضها «مدعوم سياسياً، وتندرج في مناهجها اختصاصات غير مرخصّة، ونعلم أنه ليس هناك أكثر من 7 مؤسسات جامعية فيها التزام بحقوق الهيئة التعليمية»، يقول الجمال.
استناداً إلى ضعف أو غياب القدرة التنافسية بين الطرفين، تحوّلت الجامعات الخاصة إلى مصدر كبير للربحية «فرغم أن الحدّ الأدنى لمعدل الكلفة الوسطية السنوية لكل طالب في أي جامعة في بيروت لا يقلّ عن 3000 دولار، إلا أن ما ينفق على الطالب الواحد في بعض الجامعات الخاصة يصل إلى عشرات ألوف الدولارات (تتجاوز 60 ألف دولار في بعض الجامعات وبعض الاختصاصات). أما في الجامعة اللبنانية فإن معدل كلفة الطالب الواحد يبلغ 5000 دولار، فيما تصل في بعض الاختصاصات إلى 15 ألف دولار» وفق ما يقول الجمّال.
ويلاحظ الجمّال، أن توسّع الجامعات الخاصة «هدفه تجاري بحت»، فالإدارات في هذه المؤسسات يغلب عليها الطابع العائلي، وقد أصبحت نتائج انتخابات مجالس الأمناء فيها صورية لا أكثر، أما مواصفات الهيئة التعليمية فيها، فلا تتلاءم مع التشريعات والقوانين، فضلاً عن أن هذه المؤسسات الجامعية تفتقر إلى البحث العلمي، الذي يعدّ العنصر الأساسي الذي يميّز الجامعة عن المدرسة.
لذلك يرى، أن الهيئة الوطنية لضمان الجودة من شأنها ترسيخ مبدأ «الحوكمة» في التعليم العالي في لبنان، «فعلى كل من يدفع الأموال لتحصيل علومه أن يعلم أنه يحصل على مقابل لما يسدّده»، وبالتالي «يجب أن يحصل الطالب على التبرير المناسب من إدارة الجامعة عن كل مبلغ أنفقه ضمن فاعلية مضمونة في ظل المعايير العالمية».
ففي مقارنة سريعة بين الجامعة اللبنانية والجامعة الأميركية عن عام 2007، تكشف دراسة نحاس، أن كلفة الطالب الواحد في اللبنانية بلغت 1380 دولاراً مقابل 15500 دولار في الأميركية، علماً بأن حجم الإنفاق في الاولى بلغ 100 مليون دولار مقابل 108 ملايين دولار في الثانية، لكن الجامعة اللبنانية كانت تعلّم نحو 72900 طالباً، فيما كان هناك 6057 طالباً في الأميركية!

16%

هي نسبة تغطية الدولة من مجمل الإنفاق على التعليم العالي في لبنان، البالغ 1300 مليار ليرة، فيما هناك تغطية بنسبة 9% من مصادر تكميلية (مساعدات ومنح وسواها)... أما النسبة الباقية، فهي تقع على عاتق الأسر، أي ما قيمته 992 مليار ليرة.