مستقبل القطاع الرسمي على المحك في ظل غياب الرؤى والقرارات المرتجلة

يستمر الكباش السياسي-الإجتماعي ما بين الدولة اللبنانية وموظفيها في القطاع العام، إلى حدّ بلغ ذروة ما يمكن أن يصل إليه من إضرابات وإعتصامات وعصيان كاشفاً المزيد عن التضعضع والوهن الذين يعاني منهما هذا القطاع. والحق يقال أن الحكومة اللبنانية الحالية برئاسة نجيب ميقاتي وجدت نفسها في وضع لا تحسد عليه مرغمة على معالجة قضايا وملفات متراكمة منذ عقود، تبدأ بتدهور اوضاع المؤسسات الرسمية، مروراًُ بضغط الأوضاع الإقتصادية المعيشية والخدمية للمواطن والموظفين ووصولاً الى احقاق حقوق العمال المهدورة منذ سنوات وخصوصاً تلك المرتبطة بأوضاع موظفي القطاع العام.
تحتدم المعركة على مستويين، الأول يتعلق بتصحيح الرواتب والمستند الى مشروع سلسلة الرتب والرواتب الجديدة الذي قدمه وزير المال محمد الصفدي في شهر حزيران الماضي الى مجلس الوزراء، والثاني يتعلق بعقود التثبيت ورفع 1500 عامل مياوم في شركة كهرباء لبنان الصوت من اجل تحصيل حقوقهم/ن.
فيما يتعلق بسلسلة الرتب والرواتب، بات الموضوع شبه منجزاً فيما يستمر الكباش حول طريقة تطبيقه وكيفية ايجاد مصادر مالية لتغطية تكاليف اقراره. ففيما تعتبر الحكومة أن إقرار السلسلة الجديدة للجميع في وقت واحد سيكلف الخزينة أعباء مالية غير قادرة على دفعها، وان المشكلة الأساسية تكمن في العدد الكبير من الموظفين المستفيدين من سلسلة الرتب والرواتب الذي يمكن ان يبلغ 158 ألفاً و900 موظفاً/ة، يمثل المعلمون 40 ألف منهم، فيما يمثّل العسكريون نحو 100 ألف، علماً أن هؤلاء لم يحصلوا حتى اللحظة على اي زيادة في غلاء المعيشة التي تقاضاها موظفو القطاع الخاص في شباط الماضي.
ووفقاً للتقديرات الحكومية، فان اجمالي تكلفة الزيادة للموظفين بحسب مشروع وزير المال محمد الصفدي تصل إلى 139 مليار ليرة، والمعلمين 409 مليارات ليرة، والقوى العسكرية 498 مليار ليرة. وبالتالي فإن اجمالي كلفة الرواتب والأجور وملحقاتها للموظفين والمتقاعدين في القطاع العام، إذا أقرت سلسلة الرتب والرواتب الجديدة وغلاء المعيشة، سترتب على الخزينة خمسة مليارات دولار سنويا أي ما يساوي 12 % من الناتج المحلي فيما لم يتجاوز 9% في السنوات الخمس السابقة.
إن كل هذه الأرقام بالنسبة لهيئة التنسيق النقابية لا تشكل معضلة، فهي ترفض التجزئة في منح زيادات الاجور الى أقسام القطاع العام، وكذلك مقولة ان السلسلة جاهزة للأساتذة، لكن تلك المتعلقة بالموظفين الاخرين تتطلب وقتاً اضافيا ً.

أما بالعودة الى المياومين/ات الذين يعتصمون منذ ما يقارب الـ95 يوماً، والذين ثمة الآلاف منهم/ن في مختلف الوزارات كوزارات الشؤون الإجتماعية والتربية والزراعة وغيرها، فقد باتت التسوية السياسية حول هذا الموضوع أيضاً برسم التنفيذ.
لا يغفل على أحد أن لبنان امسى أمام قطاع عام باتت أعباؤه في تزايد كبير، كما لم يكن في أي وقت سابق مع الزيادات التي أقرت لبعض القطاعات وحرمت منها قطاعات أخرى، علماً أن القطاع العام اللبناني يسد رمق فئات دنيا واسعة تزداد اتساعاً، كما يوفّر لبعض الشرائح من الطبقة الوسطى اللبنانية مستوىً مرتفعاً من الحياة.
يلاحظ مما سبق، ومن متابعة أوسع لمجمل التطورات التي حصلت أخيراً في هذا المجال أن مقاربة الحكومة لا تزال تفتقد الى اي رؤية شاملة للدورين الإقتصادي والإجتماعي المفترض ان يلعبهما القطاع الرسمي ولكيفية تصحيح أوضاعه، فتأتي قرارات الحكومة والدولة مجتزئة تعمل على اطفاء لهيب الملفات الضاغطة ومن خلالها تسجيل انجازات برسم الإنتخابات النيابية في 2013.
ومما يؤكّد تلك المقاربة القاصرة، عدم تضمين نتائج الإنفاق على سلسلة الرتب والرواتب في ميزانية 2012 التي أقرها مجلس الوزراء اخيراً لعلم الحكومة ان اقرار السلسلة بالنسبة لكافة الموظفين مسألة تحتاج مزيداً من الدراسة.
وأمام هذا المشهد، تحوم مخاوف جدية حول قدرة الحكومة الحالية وتلك التي ستليها على تأمين التغطية اللازمة لكل تلك الزيادات في الأجور في ضوء الركود الإقتصادي العام الذي يخيم على البلاد. والأخطر من كل ذلك تبقى عدم قدرة القطاع الرسمي المتضخّم بفعل الزبائنية السياسية المستشرية، في العمل بفعالية على تلبية الحاجات الإقتصادية والإجتماعية للمواطن، فيما يطلب من هذا الأخير الاستمرار في دفع فواتير القرارات المرتجلة والسياسات الحكومية التي لا تزال غائبة.