بدأت معالم الدولة المسلوبة تظهر تدريجاً منذ بداية التسعينيات. إدارات ومؤسسات شاغرة بلا موظفين. لعلّ الخطة كانت قائمة منذ البداية على تفريغ الدولة تمهيداً لاستكمال سلبها: سلب ادوارها ووظائفها ومقدّراتها... لكن الخطّة طال تنفيذها ولم تأخذ في الحسبان أنها ستهتزّ، فهؤلاء الفقراء الذين لجأوا إلى «مسيّري شؤونهم» طلبا لوظائف كيفما كان، قبلوا بحقوق وظيفية منقوصة: مياومون وعمال غبّ الطلب ومتعاقدون ومتعاملون وعاملون على الساعة... تم عبرهم ملء الفراغ المتسع مع الوقت. تحوّل هؤلاء الى اداة بيد القوى السياسية التي كانت خططها تتضمن ايضا لملمة المأساة بتحويل الادارات والمؤسسات من وظيفتها السياسية والادارية والانتاجية الى وظيفتها التوزيعية المشوّهة. لكل فئة من هؤلاء العمّال قصّة نضال وبحث عن حقوق مهدورة. منهم من استحوذ على كل الاهتمام مثل مياومي كهرباء لبنان، ومنهم من سجّل نقاطاً فقط، وبينهم من لا يزال في بداية التحرّك ويخطّط للتصعيد.
جميعهم تحرّكوا سواء كانوا عمالاً غبّ الطلب في مؤسسات المياه، أو متعاقدين بالساعة في المستشفيات الحكومية، ووزارة الشؤون الاجتماعية، او معلّمين متعاقدين في المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية... بالاضافة طبعا الى الموظفين في الملاكات الذين أُهدرت حقوقهم في التقديمات الاجتماعية أو في زيادة الأجور والتصنيفات الوظيفية مثل موظفي تعاونية موظفي الدولة، والتفتيش المركزي، والاساتذة والمعلمين وباقي موظفي إدارات الدولة.
هذه بعض النماذج التي تضاف إلى ما هو معروف ومعلن خلال الفترة الأخيرة:
* مياومو مستشفى بيروت الحكومي: انخفض عدد هؤلاء إلى نحو 570 عاملاً بعدما كان 850 عاماً في 2007. هم ليسوا مثبتين في وظائفهم، وليس لديهم تقديمات طبابة واستشفاء خارج أروقة عملهم، ولا تقديمات مدرسية ولا إجازات ولا بدل نقل، ولا أعياد رسمية... يتقاضون رواتبهم عن عملهم بالساعة. باسمهم يقول محمد بخاري: «نريد كل حقوقنا المنصوص عليها في قانون العمل والضمان الاجتماعي». الضمان؟ نعم، الدولة تخالف قانون الضمان، اذ ان إدارة المستشفى رفضت التصريح عنهم، على الرغم من ان صندوق الضمان ارسل مفتّشين إلى المستشفى لتنظيم محاضر ضبط بحقها بسبب عدم التصريح عن هؤلاء العمّال، لكن العمال لم يستفيدوا من تقديمات الضمان في الاستشفاء والتعويضات العائلية لأن المستشفى يرفض إعطاءهم إفادات عمل! لذلك، يتحسّر بخاري: «كنا نعتقد أننا مواطنون لبنانيون، لكن تبيّن أننا من الدرجة الثانية»، لافتاً إلى أن «عدم تثبيتنا غير مفهوم وغير مبرر من قبل المستشفى. لقد تلقينا وعوداً من بعض وزراء العمل والصحة لكننا لم نحصل على الحد الأدنى من هذه الحقوق بعد، فضلاً عن أن إدارة المستشفى لم تدفع زيادة الأجور بعد!».
* مياومو الليطاني: درجت موضة «عمال غبّ الطلب» لدى مصلحة الليطاني في مطلع التسعينيات، فارتفع عدد هؤلاء إلى نحو250 عاملاً. هم يعملون في المراكز نفسها منذ 10 سنوات مهما تغيّر المتعهد الملتزم. ليس مصرحاً عنهم في الضمان، ولا تقديمات طبابة واستشفاء لديهم ولا تعويضات عائلية ولا منح مدرسية ولا إجازات، ولا تعويض نهاية الخدمة... ويعتقد رئيس نقابة عمال الليطاني أحمد حرقوص إن التوظيف «غب الطلب» استعمل أداة للتوظيف السياسي، وبالتالي يفترض «إيجاد حلّ عادل وشامل لا يكون وفق الانتماءات الطائفية والمحاصصة، فيما يجب أن يؤخذ العامل الإنساني بالاعتبار وأن يتوازن مع الحفاظ على المؤسسة وتطوّرها».
* وزارة الشؤون الاجتماعية: نحو 600 موظف في وزارة الشؤون الاجتماعية يعملون في المراكز الانمائية، هم متعاقدون بالساعة وليس مصرحاً عنهم للضمان، أي أنهم بلا تقديمات الطبابة والاستشفاء والتعويضات العائلية والتقاعد، فهم من المكتومين في الدولة. وبالإضافة إلى هؤلاء، هناك نحو 700 موظف متعاقد في الوزارة لم يتقاضوا رواتبهم منذ فترة لأن موازنتهم كانت 5 مليارات ليرة في عام 2005، أي في آخر موازنة مقرّة، ثم ارتفعت إلى 25 مليار ليرة في مشروع موازنة 2012.
* التفتيش المركزي: قبل أسابيع، اعتصم نحو 130 موظّفاً في مديرية التفتيش المركزي. لديهم مطلبان أساسيان: تنفيذ المرسوم 6340 الذي يعطيهم 10.5 درجات استثنائية حصلوا عليها تعويضاً عن حقوق أهدرت سابقاً، فهذا المرسوم ردّه رئيس الجمهورية بلا مبرّر. والأنكى من ذلك كله، أن مشروع المرسوم الجديد خفض عدد الدرجات الاستثنائية إلى 8 وهو ينام اليوم في أدراج الأمين العام لمجلس الوزراء سهيل بوجي. فبحسب المفتشين، أسهم بوجي في إحالة المشروع إلى هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل رغم أن المادة 9 من قانون مجلس الخدمة المدنية ينص على أن المعني بهذا الأمر هو مجلس الخدمة المدنية.
المطلب الثاني للمفتشين هو مرسوم الترفيعات الذي ينام في الأدراج منذ عام 2003 بذريعة عدم التوازن الطائفي بين الناجحين، فهل يجب أن يكون معيار الكفاءة في التفتيش المركزي هو التوازن الطائفي؟
* تعاونية موظفي الدولة: يقبع نحو 250 موظفاً في تعاونية موظفي الدولة بين منزلتي المستخدمين في المؤسسات العامّة والموظّفين في ادارات الدولة، فهم ليسوا في المحلّين، لذلك يطالبون منذ نحو 10 سنوات بأمرين: تطبيق نظام التقاعد في الادارات العامّة عليهم بدلاً من نظام تعويض نهاية الخدمة، وزيادة تقديماتهم الاجتماعية في الطبابة والاستشفاء والتعليم، أسوة بالمكاسب التي يحصل عليها موظفو المؤسسات العامة. نفّذوا عدداً من الاعتصامات المتفرقة، لكن تحرّكهم بهذه الوتيرة لم يكن يوفّر لهم أي دفع في عملية المطالبة، فقرروا أن يعتصموا بشكل مفتوح. توقفوا أخيراً بعد وعد من رئاسة مجلس الوزراء بأن تقرّ مطالبهم خلال فترة قريبة. لكن ليس هناك في الأفق ما يطمئن البال.
6تموز2012