في أيلول، لا صوت يعلو فوق صوت المدرسة. يزداد ذلك الصوت علواً، عاماً بعد عام، مع ازدياد كلفة العودة إلى المدارس. فالتعليم ذو المستوى اللائق في لبنان، هدف لا يحققه إلا أصحاب الثروات. وفي حال أراد أصحاب المداخيل المتوسطة، الطموح لتعليم أولادهم ضمن ذلك المستوى، تقصم ظهورهم، قبل سداد المصاريف نهاية كل عام. منهم من يستدين كي يسدّد بالتقسيط، ومنهم من يستغني عن متطلبات عدة في حياته.
غاب التعليم، كحق مكتسب لكل مواطن على الدولة، لمصلحة تجارة التعليم. بين مدرسة علمانية تصل قيمة أقساطها إلى عشرة آلاف دولار، وبين مدرسة شبه مجانية يتعلم فيها الفقراء، تؤدي كلفة التعليم وطريقته في لبنان إلى تخريج طلاب منقسمين إلى طبقات اجتماعية وفئات دينية وثقافية متنافرة، ومتناقضة إلى حدود الصراع في ما بينها. ذلك أخطر ما يواجهه وطن.
أما الكتب، فهي تخضع لسوق العرض والطلب، تماماً مثل السلع، وتفرض على أهالي التلامذة. هناك مدارس تتبع لدول العالم المتطور، مثل مدارس الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا بشكل خاص، «الآي سي إس»، و«الكوليج»، و«الليسيه»، والمدرسة الألمانية، تتغير فيها الكتب، استناداً إلى تغير المناهج الدراسية في بلاد المنشأ. وهناك مدارس لا تتغير فيها المناهج، ولكن يجري تغيير شكل الكتب التي تعتمدها، وبعض الأساليب فيها، فتباع بطبعات جديدة، ويصبح المستعمل للنفايات، بدلاً من استفادة التلامذة منه.
دور النشر تقرّر تغيير الكتب
المفاجأة التي قد لا يعرفها كثيرون هي أن من يقرّر تغيير شكل الكتب هو دور النشر التي تنتجها، وليس إدارات المدارس، وما يحصل هو اتفاقها مع الإدارة على بيع الطبعات الجديدة وتقاسم الأرباح. وذلك ما يؤكده أكثر من صاحب مكتبة. أما معرفة أنواع الكتب التي يتعلم فيها التلامذة، فهي أشبه بالمستحيل. يقول جهاد مسؤول المكتبة العلمية في حارة حريك، وهي أكبر المكتبات المدرسية في لبنان إن عدد دور النشر التي تبيع الكتب للمدارس، يصل إلى خمسين دار نشر تقريباً. أما عناوين الكتب فهي بعشرات الآلاف. يبيع جهاد الكتب لجميع المدارس من دون استثناء، ويحفظ أسماء عدد كبير منها، لكنه لا يستطيع تقديم إحصاء تقديري لعناوينها، لشدة تنوعها وتنوع المدارس التي تشتريها، بينما يقدر عدد عناوين القصص المدرسية بمليون ومئتي ألف عنوان.
ويبدو ذلك من العجائب اللبنانية، لأن المناهج التعليمية في كل دولة موحدة تقريباً، ولكل مرحلة تعليمية منهاجها الخاص بها. لذلك يقال في لبنان: يبدأ الأطفال تلامذة بريئين في مدارسهم، ويتخرجون شعوباً عالمية، يتعرفون إلى تاريخ العالم قبل تاريخهم وجغرافيته قبل جغرافيتهم.
وضع «المركز التربوي للبحوث والإنماء» مناهج دراسية، يعتبرها جهاد الذي يعمل في كتب المدارس منذ خمسة وثلاثين عاماً من أفضل المناهج، لكن من يتعلم فيها هم تلامذة المدارس الرسمية، وبعض المدارس الخاصة.
ويبلغ مثلاً سعر كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس المتوسط من كتب المركز التربوي خمسة آلاف ليرة، بينما يبلغ سعر كتاب اللغة الإنكليزية للصف نفسه في «مدرسة السان جورج» مئة وسبعة عشر ألف ليرة. تسأل السيدة فداء التي كانت تشتري كتاب «السان جورج» لابنتها الوحيدة وهي تردد: أريد أن أعرف ماذا يوجد فيه كي يكون ثمنه مرتفعاً إلى ذلك الحد؟ لدي ابنة وحيدة، لو كان لدي أكثر من ولد، سأنقلهم حتماً إلى مدرسة أقل كلفة. تضيف: لقد زادت قيمة القسط السنوي لابنتي مليون ليرة، فأصبح ثلاثة ملايين ومئتين وخمسين ألف ليرة. وزاد بدل الحافلة سبعمئة ليرة، وبدل النشاطات المدرسية ثلاثمئة ألف ليرة، وبذلك بلغت الزيادة الإجمالية مليوني ليرة.
ويقول جهاد إن سعر بعض الكتب يصل إلى مئة وثلاثين ألف ليرة، ولا يعرف لماذا؟ يتابع ضاحكاً: إن الكتب الأقل سعراً في «جمهورية الموز» هذه، هي كتب «المجلس الوطني للبحوث والإنماء». وتسعر وزارة الاقتصاد كل الكتب المدرسية التي تنتج في دور النشر اللبنانية، أما الكتب المستوردة من الخارج، فهي تخضع لتقديرات صاحب كل مكتبة.
في المقابل، يعتمد عدد من المدارس، طريقة تبادل الكتب المستعملة بين التلامذة، وهي طريقة جميلة، للتوفير من جهة، وخلق التفاعل الودي بين التلامذة من جهة ثانية. بينها مدرسة الحكمة - برازيليا في بعبدا التي تسمح بتبادل الكتب فترة ثلاثة أيام مع بداية كل عام دراسي، وبعد ذلك من ينقصه كتب مستعملة، يستطيع شراءها في حال توفرها من مكتبة المدرسة.
ارتفاع المصاريف مع الترفيع المدرسي
لكل مرحلة تعليمية مصاريفها، لكنها تزداد ارتفاعاً مع توالي السنوات الدراسية. تقول غنوة حموة إن لديها صبيين في الصفين الثامن والسادس المتوسط في «مدرسة الحريري الثالثة» في أرض جلول، تدفع مبلغ ثلاثة ملايين وستمئة ألف ليرة بلد أقساط للأول، وثلاثة ملايين وأربعمئة ألف ليرة بدل أقساط للثاني، وقد زاد كل قسط ثلاثمئة ألف ليرة في نهاية السنة الماضية، بينما أرسلت إدارة المدرسة هذا العام كتابا للأهل تعلمهم فيه أن القسط المدرسي غير ثابت، أي يمكن زيادته هذا العام. عدا ذلك، تشتري غنوة كتبا جديدة لولديها كل عام، مشيرة إلى أن العديد من الكتب يتغير كل عامين مثل الرياضيات واللغات الفرنسية والانكليزية والعربية، مع العلم أن مضمونها هو نفسه، وقد دفعت ثمن الكتب حالياً أربعمئة دولار، لأن الصغير أخذ أربعة كتب من شقيقه، بالإضافة إلى القصص، وإلا كانت دفعت خمسمئة دولار، يُضاف إليها مئة وستون ألف ليرة بدل دفاتر وأوراق امتحانات، ويعتبر «المريول» ضمن القسط لتلميذ الصف السادس، بينما اشترت الزي المدرسي لتلميذ الثامن، بنطلون وقميص وكنزة مع ملابس رياضية بمئة وخمسين ألف ليرة. ودفعت مئة وستين ألف ليرة بدل المشاركة في الرحلات ضمن مدينة بيروت والمسرحيات والنشاطات المدرسية، أما خارج بيروت، فيترتب عليها زيادة الدفع.
وفي «الليسيه عبد القادر» بلغت نسبة الزيادة على الأقساط سبعة عشر في المئة، فأصبح بدل القسط للمرحلة المتوسطة ستة ملايين وستمئة وتسعين ألف ليرة، تشمل المصاريف، على أن يكون أي قرار بزيادة أخرى مؤجلاً حالياً. ويخضع تغيير الكتب لقرار مدارس الليسيه الفرنسية، ولا ينقل التلامذة في أوتوكارات المدرسة.
وينتقد أحد المسؤولين في الإدارة قرار الحكومة بزيادة الأجور، بدل ضبط الأسعار، لأن التجار لا يزالون يبيعون البضائع المستوردة باليورو، استناداً إلى سعر دولار وتسعة وخمسين سنتا لكل يورو، فيما انخفض سعره إلى دولار ومئتين وأربعة وثمانين سنتا. وينتظر تنفيذ قرار زيادة الستين في المئة على رواتب الأساتذة لمعرفة نتائجها.
ويسأل: لماذا لا يتم تفعيل الاقتصاد وزيادة الاستثمار بدل زيادة عدد الأوراق النقدية في جيوب المواطنين، من دون قيمة فعلية لها. ويقول أنا أدفع دم قلبي على ولدي لكي يهاجر فيما بعد.
لكن زياد الذي يعلم أولاده في «مدرسة انترناشيونال ليسينك» في الشويفات، يعتبر مستوى المدرسة التعليمي جيداً جداً، ويقول إن مدير المدرسة كان مهاجراً إلى ألمانيا، وعاد بعقل ألماني، يرى بموجبه أن التعليم من حق الناس، فيدفع زياد عن ابنه بدل قسط الصف السابع، مليونين ومئتي ألف ليرة، وقد زاد مدير المدرسة القسط هذا العام مبلغ مئتي ألف ليرة.
حتى مدارس المساعدات مضطرة إلى الزيادة
نموذج آخر من المدارس ذات القيم الدينية، وهي «مدارس المبرات»، تتلقى مساعدات من وزارة الشؤون الاجتماعية، ولا تبغي الربح، لكنها ستزيد أيضاً كلفة التعليم هذا العام. يقول المسؤول الإعلامي في «مدارس المبرات» فاروق رزق إن الأقساط مدروسة ومدعومة من «جمعية المبرات»، وقد بلغت قيمة المساعدات للمتعثرين نحو ملياري ليرة العام الماضي، ولكن زيادة سلسلة الرتب والرواتب، سوف تزيد العجز في المؤسسة، لأنها ستكلف مبالغ كبرى، وسوف يُعاد النظر في الاتفاقات المعقودة مع المدرسين العام الماضي.
ويوجد نوعان من المدارس لدى «المبرات» وهي: المجانية وعددها تسع مدارس تتوزع على المناطق، وست مدارس غير مجانية، ستزاد قيمة كل قسط فيها بين مئتين وبين أربعمئة ألف ليرة. كان القسط المدرسي لصف المتوسط مليونين وخمسمئة ألف ليرة، وأصبح مليونين وثمانمئة ألف ليرة. وتعتمد «المبرات» الكتب المقررة لدى المركز التربوي للبحوث والإنماء.
وفي حين تردد عن زيادة رسم التسجيل في المدارس الرسمية، أوضح أحد المسؤولين في الوزارة أن الرسوم التي زادت هي على مجلس الأهل، وليس التسجيل: كان أهل كل تلميذ يدفعون سبعين ألف ليرة، فأصبح يترتب عليهم دفع ما بين مئة وعشرين الفاً وبين مئة وخمسين ألف ليرة، كما يدفعون مبلغ تسعين ألف ليرة بدل رسوم التسجيل في المدارس الثانوية. أما صندوق المدرسة فتوضع فيه أموال من إيرادات دكان المدرسة والفوائد المصرفية والهبات والتبرعات والمساعدات، وتصرف على أعمال الخدمة، والنظافة، ومواد التدريس، وآلات مكتبية، ومختبر، والتأمين الصحي، لأن لدى تلامذة التعليم الرسمي تأميناً صحياً، في حال تعرضوا لحادث داخل المدرسة.
إلزاميــة شــراء القرطاســية
ذكّر وزير الاقتصاد والتجارة نقولا نحاس، أمس، بأنه «يجب على المؤسسات التربوية والمدارس الخاصة، الراغبة في بيع الكتب والقرطاسية واللوازم وسواها، التقيد بموجب التسجيل كمؤسسة تجارية، تتعاطى بيع الكتب والقرطاسية واللوازم، والقيام بالإجراءات القانونية والمالية المعمول بها».
وذكّر المؤسسات التربوية، لا سيما المدارس الخاصة التي تقوم ببيع الكتب المدرسية والقرطاسية والمستلزمات الدراسية، بضرورة التقيد بالأحكام القانونية النافذة، لا سيما تزويد أولياء أمور التلاميذ بلوائح الكتب والقرطاسية وسواها، وعدم إلزامهم بشرائها من المدرسة أو أي مكتبة أو مؤسسة.
وطلب من المؤسسات التربوية والمدارس الخاصة، «التقيد التام بالأحكام القانونية، لا سيما مندرجات هذا البلاغ»، محذراً «من أن دوريات مديرية حماية المستهلك والمصالح الاقليمية في المحافظات، ستتشدد في ضبط المخالفات، وإحالة أصحابها إلى النيابات العامة المختصة».