Saturday, 23 February 2013 - 12:00am
«كبّر عقلك»، هكذا يعلّق احد الوزراء على سؤال عن مصير مشروع التغطية الصحّية الشاملة. يقول «الوقت ليس مناسبا لمثل هذه الطروحات غير الواقعية»! ولكن متى يحين الوقت؟
محمد زبيب
الثلاثاء الماضي، قتلت الدولة الطفل مؤمن المحمد، ابن بلدة برج العرب في عكّار المهمّشة، بعدما رفضت مستشفى في طرابلس استقباله، على رغم اصابته بالتهاب السحايا الخطير، بحجّة ان حصّة المستشفى من الاستشفاء على حساب وزارة الصحّة استنفدت بالكامل، وأن وزير الصحّة علي حسن خليل أصدر قبل يوم واحد (الاثنين) تعميماً بوقف الاستشفاء على حساب الوزارة اعتباراً من الاربعاء (بعد يوم من وقوع الواقعة). الهدف من التعميم كان الضغط على وزارة المال للافراج عن اعتمادات لتجديد العقود مع المستشفيات للعام 2013 في ظل عدم وجود موازنة عامّة للدولة او قانون استثنائي يجيز لها ذلك بحسب ما تنص احكام الدستور! يقول اطباء ان كلفة انقاذ حياة الطفل لم تكن تتجاوز 100 دولار، وكان يمكن ان يكون الآن سالماً، فقط لو انه وُلد لاسرة ميسورة او صودف انها تحظى بالضمان الصحي «الانتقائي»، او لو انه وُلد في كنف دولة تحترم الحدّ الادنى من حقوق مواطنيها، او في بلد تحترم فيه المستشفيات حقوق الانسان ويلتزم الاطباء قسمهم.
قد يبدو المشهد عبثياً، ولكنه ليس كذلك ابداً. فالظاهرة المعروفة بـ«الموت على ابواب المستشفيات» ظاهرة «اصيلة» في لبنان، وهي واحدة من النتائج الحتمية للنهج الذي طبع المراحل الماضية، والذي اسفر، بحسب توصيف الوزير السابق شربل نحاس، عن تراجع مقلق في مشروعية الدولة والثقة بها، وعزز مظاهر التفكك والانحلال في المجتمع، وزاد من حدّة الفروقات الاجتماعية وضعف البنى التحتية والاقتصادية والادارية، وراكم مديونية عامّة قياسية وتاريخية، وبالتالي شجّع فئات لبنانية واسعة على الاستسلام للواقع المأزوم، او الارتهان للمصالح الكامنة فيه، او طلب المزيد من الحمايات الخارجية، او التخلّي عن طموح المواطنة لصالح تكريس انتماءات دون مرتبتها... وكل ذلك، بحسب نحّاس، ما كان ليحصل لولا الاسترخاء على مدى العقود الاربعة الماضية في مواجهة نمط خطير تمّ ارساؤه، يقوم على حضور اقل للدولة متزامن مع هجرة واسعة، وهما عاملان سمحا، في السابق، بالحصول على تدفقات مالية كبيرة عظّمت حصّة الريوع في الاقتصاد وأعفت الحكومات المتعاقبة وصنّاع القرار (محلياً وخارجياً) من اداء الواجبات وتحمّل المسؤوليات في مرحلة ما بعد الطائف، كما سمحا بتجذّر منظومة الفساد على الصعد المختلفة، بما في ذلك تحويل مؤسسات الدولة واداراتها واجهزتها ومقدّراتها الى «اقطاعات» تُمارس من خلالها آليات التوزيع المشوّهة وتُؤمن عبرها مصالح خاصّة ومكاسب سياسية ضيّقة، والاهم انها تبني وساطة قسرية لعلاقة المواطن بدولته، ليس بوصفه فرداً حراً، وانما بصفته عضواً في «جماعة» يؤمّها «زعيم» في مواجهة «زعماء» الجماعات الاخرى.
انطلاقا من هذا التوصيف يمكن الاشارة الى قاتل مؤمن بالاسم والصفة والموقع والدور، فالصحّة، بهذا المعنى الدقيق، تحوّلت الى «اقطاعية»، وتوضح تجارب اللبنانيين مع الحكومات المتعاقبة، كيف ان الاقطاعيات الطائفية تتنازع على تولي حقيبة الصحة بغية استخدامها وسيلة في معاقبة الخصوم او في بناء شعبية. وهو سلوك لم يشذ عنه احد من مكونات الفريق المتعاقب على الحكم منذ زمن بعيد. لكن هذا التحديد، على اهميته، لا يختزل كل «القصّة»، فتوصيف نحّاس يكشف عن مجموعة واسعة من «القتلة» تتعارض مصالحهم الشخصية مع اي تصحيح ينطوي على نيّة باستعادة الدولة او اعادة توزيع الاكلاف المترتبة على النظام الضريبي والنهوض بالاقتصاد الى مستوى يتناسب مع حاجات المجتمع اللبناني.
كيف يتعارض تأمين الضمان الصحّي للجميع مع كل هذه المصالح؟ للاجابة عن السؤال تكفي الاشارة الى التحالف الواسع الذي نشأ اواخر 2011 بين اكثرية مكوّنات الحكومة الحالية وخصومها في البرلمان وبين هيئات اصحاب العمل وقيادة الاتحاد العمّالي العام لاسقاط مشروع التغطية الصحية الشاملة الذي طرحه نحّاس عشية دفعه الى الاستقالة. شعر هذا التحالف بخطر حقيقي من قيام قوى اجتماعية بالضغط لتحرير هذا الحق من الزبائنية، فالبدء بتحرير ارادات الناس من زاوية الاقرار بحقهم في الضمان الصحّي المجاني من دون منّة، يمكن ان يساهم في تحرير الدولة نفسها من محتليها وفي تحرير صندوقة الاقتراع من الارتهان لاصحاب الخدمات. ليس هذا فحسب، فالمشروع المطروح يرتب كلفة كبيرة قدّرت بنحو 2000 مليار ليرة سنويا، اي بزيادة 1100 مليار ليرة تقريباً عما تسدده خزينة الدولة حاليا لتأمين الاستشفاء عبر وزارة الصحّة والمساهمة في الصناديق الضامنة الاخرى، ما يعني ان تنفيذ هذا المشروع يفرض حكماً اعادة النظر بالنظام الضريبي لتأمين الايرادات المطلوبة، وهو ما استبقه نحّاس بطرح فرض الضريبة بنسبة 25% على ارباح المضاربات العقارية (المقدّرة باكثر من 7 مليارات دولار سنويا) وبنسبة 15% على ارباح المضاربات المالية (المقدّرة بمبلغ مماثل وهي غير مكلّفة الا بضريبة نسبتها 5% فقط على بعض مصادر هذه الارباح الريعية وليس كلّها). يومها أُستنفر «اللوبي الريعي» بكل قوّته، تماما كما يحصل اليوم في مواجهة 250 الف موظّفة وموظّف في ادارات الدولة واسلاكها ومدارسها يطالبون بحقهم في تصحيح سلاسل رواتبهم المجمّدة منذ 1998. اسقط مشروع التغطية الصحّية الشاملة للمحافظة على مصالح القلّة، وحماية المواقع السياسية التي بنوها على حساب الدولة وحماية مصادر الاثراء غير المشروع التي ترسّخت في النمط الريعي الهدّام... من اجل ذلك يجري يبقى مليونا لبناني ولبنانية غير مشمولين بأي نظام للضمان الصحي عرضة للمخاطر نفسها التي اودت بحياة الطفل مؤمن المحمد، وغيره كثيرين لا تتيح المعطيات تحديد عددهم وملابسات موتهم. اليوم، يواجه اللبنانيون تحدّيات ومخاطر اكبر بسبب احتمالات تراجع التدفقات النقدية الخارجية التي تسمح باستمرار تخصص الاقتصاد اللبناني في خدمة الاقتصاد الاقليمي الريعي، وبالتالي لا تصلح الحجّة بأن الظروف غير ملائمة للخوض مجددا بمناقشة المشروع الى جانب مشروع تصحيح سلاسل الرواتب وتصحيح الاجور في القطاع الخاص، فالحكومة مجبرة الآن على تحديد خياراتها قبل وقوع الكارثة الاكبر، وهذه الخيارات لا يمكن تركها لمجموعة لاعبين محكومين بمصالحهم الخاصّة بل هي خيارات وطنية تفرضها المسؤولية الملقاة على الدولة في تحقيق المصلحة العامّة... فالتصحيح لا يمكن ان يكون إلا إرادياً ولا يقع إلا على عاتق الدولة. الآن تحديدا هو الوقت المناسب لكي يذهب «اللوبي الريعي» الى الجحيم من اجل انقاذ باقي اللبنانيين من الهلاك المحتوم في حال استدام هذا النظام وذاك النهج.
* لبنان
* ACGEN
* الأخبار
* صحة