Monday, 29 April 2013 - 12:00am
تستعد هيئة التنسيق النقابية للعودة إلى الشارع فهي لم تبلع محاولة خداعها بإقرار سلسلة الرواتب مرّة ثانية من دون إحالتها على مجلس النواب. إلا أن قيادة الهيئة باتت تدرك أنّ نتائج المعركة قد تكون سلبية إذا بقيت تخوضها بمفردها
لاذت الهيئات الاقتصادية بالصمت. لم تعد سلسلة الرتب والرواتب تهدد البلاد بكارثة. بالعكس، بدأ بعض ممثلي هذه الهيئات يبشّر بالانتعاش، رغم اتخاذ مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة، في 21 آذار الماضي، قراراً ثانياً بإحالة مشروع السلسلة على مجلس النواب. أعلن رئيس اتحاد غرف التجارة محمد شقير، أن الفنادق امتلأت فور إعلان استقالة الرئيس نجيب ميقاتي. أشار إلى ارتفاع نسبة الإشغال مباشرة من 35% إلى 70% و80% في غضون أسبوعين! صوّر الأمر كما لو أن السيّاح كانوا متسمّرين أمام شاشات التلفزيون بانتظار شيوع خبر الاستقالة، وما إن أعلنها ميقاتي حتى تهافتوا على وكلاء سفرهم ليحجزوا لهم عطلة في ربوع لبنان. يا سبحان الله!
في الواقع، لم يتغيّر شيء في الأوضاع السيئة، لكن أُدخل تعديل بسيط على الخطاب للمرحلة المقبلة. فما يُسمى «الهيئات الاقتصادية» (وهي التجمّع الذي يمثّل مصالح أصحاب الرساميل) أدركت أن خطابها التهويلي لم يحقق أغراضه في إخضاع هيئة التنسيق النقابية ووضع الناس في مواجهتها، ولا سيما غير العاملين بأجر، بل إن النتيجة الأبرز لهذا الخطاب أنه استفزّ الفئات التي تمثّلها الهيئة، وهي تتشكّل أساساً من المعلّمين في المدارس الرسمية والخاصة وموظّفي الإدارة العامّة، فزادها إصراراً على تحقيق مطلبها بإحالة السلسلة بما يشبه التحدّي، وباتت هناك خشية من أن يجتذب زخم تحرّكاتها شبه اليومية في الشارع فئات أخرى من العاملين في القطاع الخاص، فيحثّها على التنظيم والضغط على القوى السياسية المسيطرة والسعي إلى تحقيق بعض التوازن المفقود في ميزان المصالح الاجتماعية وعلاقات العمل. بمعنى ما، استدرك تجمّع أصحاب الرساميل النتائج العكسية لإعلانه «الأمر لي» في لحظة سياسية ملتبسة، فقرر أن يخطف «تباشير الربيع النقابي» بدل محاربتها وجهاً لوجه، في ظل أوضاع غير مضبوطة محلياً وإقليمياً، ولا يمكن التكهّن كثيراً بمساراتها المنفلتة. وهذا، ربما، ما دفع رئيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي حنّا غريب إلى القول في احتفال عيد العمّال أمس: «إن تباشير ربيعنا النقابي لاحت في الميادين لا في المخيّلات، ووحدهم الحمقى يعتقدون أن في وسعهم أن يمنعوا الربيع من أن يزهر ويؤتي ثماره». ولكن، للأسف، يدرك حنّا غريب جيداً أن هؤلاء «الحمقى» يمتلكون ما يكفي من المال والسلطة كي يدافعوا عنهما حتى آخر لبناني، إذا تسنّى لهم ذلك، وهذا ما تدلّ عليه التجارب السابقة في لبنان وفي الكثير من البلدان. ولذلك (ربما أيضاً) أراد من عبارته أن تنطوي على رسالتين تحذيريتين: أن معركة هيئة التنسيق النقابية لم تنته بعد، ما دام مشروع السلسلة لم يصل إلى مجلس النواب، ولم يُقَرّ وفقاً للاتفاقيات والتعهدات المعقودة، وأن هناك خطراً جدّياً من خسارة هذه المعركة إن تُركت الهيئة وحدها ولم تتكامل معركتها مع معارك أخرى مفتوحة وتؤسس لقيام حركة نقابية جديدة.
لماذا هاتان الرسالتان الآن؟ ألم تنتصر هيئة التنسيق النقابية بتنفيذها إضرابا مفتوحاً صمد أكثر من شهر ورضخت له القوى السياسية جميعها قبل ساعات من استقالة الحكومة؟
في الحصيلة، لا يزال مشروع السلسلة معلّقاً، والهيئة لم تحقق مطلبها فعلياً، بل إن اضطرار مجلس الوزراء إلى اتخاذ خطوة تتيح للهيئة تعليق إضرابها المفتوح، كان ينطوي على خداع كبير؛ إذ إن تأخير إحالة المشروع على مجلس النواب منذ أيلول الماضي وإعلان الإفراج عنه مع استقالة الحكومة وعشية انتهاء ولاية مجلس النواب نفسه، هي أفعال بدت مقصودة بهدف وضع المشروع في مرتبة أدنى من مرتبة تشكيل الحكومة الجديدة والتوافق على قانون الانتخاب أو التمديد... أي، باختصار، كان مطلوباً اتخاذ خطوة شكلية تسمح بالتخلّص من الإضراب في شرط مسبق لاستقالة الحكومة، وبالتالي ترك مشروع السلسلة نفسه مؤجلاً إلى أجل غير مسمّى.
صحيح أن هيئة التنسيق النقابية كسبت معنوياً بصمودها والاحتضان الواسع لها وأكسبت بعض الفئات الاجتماعية الكثير من المعنويات، لكن الجولة الماضية ربحها مجدداً تجمّع أصحاب الرساميل؛ إذ استطاع حتى الآن فرض كل شروطه؛ فالسلسلة، إذا وصلت إلى مجلس النواب وأقرّها، لن تموّل من الضرائب على أرباح المصارف والفوائد والأسهم والأرباح العقارية وتغريم محتلي الأملاك العامّة ومكافحة التهريب التجاري والاحتكارات... بل بحجّة التمويل تجري محاولة مكشوفة لتكريس منافع هائلة لبعض مكوّنات هذا التجمّع من خلال السعي إلى خفض الغرامات على احتلال الأملاك العامّة البحرية من 5 أضعاف الرسم الذي يسدده صاحب الترخيص إلى ضعف واحد فقط، وذلك تمهيداً لـ«شرعنة» الاحتلال وترخيصه بدلاً من تجريمه... وكذلك من خلال السماح استثنائياً للشركات والأفراد بإعادة تقويم قيمة أصولهم من الأسهم والعقارات بضريبة مخفوضة جدّاً تراوح بين 1.5% و3% (تبعاً للحالات)، وذلك قبل البدء بتطبيق ضريبة جديدة مقترحة على إيرادات البيوعات العقارية، التي حُددت بـ15% فقط وأُعفيت منها الشركات المكلّفة ضريبة الدخل (عملياً معظم المتاجرين بالعقارات)، أي إن ضريبة الربح العقاري الموعودة يُراد تصفيتها فعلياً قبل تطبيقها كي لا تؤثّر على ريوع المتاجرة بالأراضي، ما دام مخزون المضاربين تكوّن بالفعل في السنوات الماضية.
هذه الحصيلة تضع هيئة التنسيق النقابية في مأزق جدّي؛ فهي مضطرة للعودة إلى الميدان لاستكمال معركة تحقيق مطلبها بإحالة مشروع السلسلة على مجلس النواب وإقراره وتطبيقه، ولكنها تعجز عن خوض معركة مصادر تمويل الموازنة (الافتراضية) وحدها بالنيابة عن كل فئات المجتمع اللبناني وقواه السياسية. تدرك قيادة الهيئة أنها باتت تمتلك القدرة على فرض مصالح الفئات التي تمثّلها، لكنها، في المقابل، باتت تخشى أن تحقق انتصاراً مشكوكاً فيه إن لم يقترن هذا الانتصار بتعديل جوهري للنظام الضريبي، أي أن تموّل الموازنة، بما فيها السلسلة، من الثروات الفعلية المتراكمة.
هنا تكمن المعركة الفعلية، أي في إعادة توزيع الحصص في الناتج المحلي، لذلك لا يمكن حصر المعركة بمطالب المعلّمين والموظفين في إدارات الدولة والجيش، وهي مطالب لن ترتّب إنفاقاً إضافياً إلا بقيمة 868 مليار ليرة في هذا العام، فيما الإنفاق العام الإجمالي ارتفع من 17.6 ألف مليار ليرة في عام 2011 إلى 20 ألف مليار ليرة في عام 2012، ويقدّر أن يبلغ 22 ألف مليار ليرة في هذا العام، من دون أن تقابله زيادة في الإيرادات الضريبية وغير الضريبية التي قدّرت في نهاية العام الماضي بنحو 14 ألف مليار ليرة، ما يعني أن هناك حاجة إلى تمويل 8 آلاف مليار ليرة في هذا العام، وليس فقط 868 مليار ليرة. وكل ذلك من دون احتساب الحاجات الفعلية المؤجّلة على صعيد إعادة إعمار البنى التحتية والخدمات العامة المتقهقرة.
لقد أثبتت هيئة التنسيق النقابية أن لديها قدرة كبيرة للذهاب في المواجهة إلى أقصاها، وأعادت إحياء مشروعية العمل النقابي بعدما فقد العمّال كل ثقة به وبجدواه، وكشفت عن انقسام في لبنان، طابعه اجتماعي، لذلك أصبح ضرورياً التخلّص منها كشرط ضروري يسمح بالتفرّغ للحروب الأخرى وانقساماتها. انطلاقاً من هذا الهدف تحديداً، لاذت «الهيئات الاقتصادية» بالصمت الآن، ظنّاً منها أن هيئة التنسيق النقابية لن تستكمل تحرّكاتها في «الفراغ»، ما يسمح بخطف «تباشير الربيع النقابي» وتسليمها للحكومة المقبلة لتقوم بدورها على أكمل وجه، أو كما قال محمد شقير: «لنا مطلب واحد، هو إعادة السياح إلى لبنان، ولا سيما الخليجيون، إلى جانب عودة المستثمرين واللبنانيين المغتربين للاستثمار في لبنان... وإلا فإن الانفجار الاجتماعي آتٍ».
ACGEN اجتماعيات اقتصاد الأخبار