Tuesday, 14 May 2013 - 2:05pm
اثارت مقالة جهاد الزين في "نهار" 20/4/2013، بعنوان "انحطاط الجامعات الوطنية" نقاشاً واسعاً بين اساتذة الجامعة اللبنانية، وعند المُهتمين بشؤونها، واختلفت الاراء في تقويم المقاربة، فمنهم مَن اعتبرها تجنياً وافتراءً بحق جامعة الوطن، ومنهم مَن انصف كاتب المقال الذي لامس بموضوعية زوايا مُظلمة مهمة، لا يُلغي وجود ظُلمتها النظر الى الزوايا المُضيئة الأُخرى، فوجع الجسم الواحد مؤلمٌ اياً كان مصدره، سواء من القلب او من الاطراف.
صحيحٌ ان عدداً كبيراً جداً من ابناء اساتذة الجامعة اللبنانية يدرُسون في الجامعات الخاصة، وعلى حساب صندوق التعاضد، ولكن الصحيح ايضاً ان كثيرين من هؤلاء الابناء يتابعون دراستهم في الجامعة اللبنانية، ومنهم مَن لم تسمح له امتحانات الدخول القاسية في معظم الكليات من النجاح في الدخول، فاختار حكماً الذهاب الى الجامعات الخاصة، او السفر لمتابعة التحصيل العلمي في الخارج. فهناك جامعات خاصة ناجحة وعريقة، ويوجد جامعات خاصة فاشلة، تؤمن استمراريتها الدعاية والامكانات المالية، اكثر من المستوى الاكاديمي. والامر يتشابه مع ما هو عليه الحال في بعض كليات اللبنانية، حيث تتقدم سمعة بعضها عن سمعة ومكانة بعضها الآخر، برغم المجهود الجبار الذي تبذله رئاسة الجامعة لردم هذه الهوة.
الانبهار الطبقي والبسيكولوجي ببعض الجامعات الخاصة، له ما يبرره في لبنان، وقد يكون سوق العمل المحلي والاقليمي مُعجباً بالنمطية الغربية التي تحقق تنافسية عالية، تُساعدها ثقافة متنامية تعتمد على اللغات الاجنبية كرافعة اساسية، وليس دعائم مساندة ومساعدة فقط، مما سيحوِّل المستقبل القريب ساحة صراع حقيقية بين تعلُّم اللغات الاجنبية الضروري لتقدم الشعوب، وواقع إنحلال اللغة العربية بالكامل، حتى في اختصاصات الآداب والعلوم الانسانية.
لا يمكن تعييب اساتذة اللبنانية لكون بعضهم يُعلم ابناءه في جامعات خاصة، فهذا الامر خاضع لسوق التعليم الواسع، وللمنافسة، اضافة الى كون 70% من اساتذة الجامعة اللبنانية هم من المتعاقدين الذين يتوزعون في تعليمهم بين اللبنانية والجامعات الخاصة التي تُقدِّم حوافز مادية ومعنوية لهؤلاء، مهمة جداً، ومن المتعاقدين عدد كبير من القضاة والاطباء، مهنتهم الرئيسية غير التعليم.
ليس صحيحاً ان اللبنانية تعيشُ "انحطاطاً تربوياً استراتيجياً" فتطبيق نظام "LMD" واكب المعايير العالية للتعليم المُعتمد في ارقى الجامعات الاوروبية، ولكن التدخلات السياسية تؤثر على مستوى التقدم في الجامعة، لأن نظام المحاصصة الطائفية، او المناطقية، لا ينطبق في اي حالٍ من الاحوال مع الاعتبارات الاكاديمية، فلا يجوز مثلاً رفع صور سياسيين (او حتى مجاهدين) فوق مداخل قاعات التدريس مهما كانت الاعتبارات الوطنية، او الدينية، كما لا يجوز ربط مصالح اساتذة او طلاب بمندرجات الولاء السياسي، الذي يجب ان يكون ارقى من سياق تقديم الخدمات التوظيفية، او الطباعية، او غيرها.
ان سياسة الدولة تجاه الجامعة (وليس فقط التدخلات السياسية) هي السبب الرئيس في انتاج بعض الاخفاقات الموجودة، فعدم تشكيل مجلس الجامعة مسؤولية الحكومة والقوى السياسية، وإذلال الاساتذة المتعاقدين - والذين يملكون حقاً بديهياً بالتفرغ كفلته القوانين – ايضاً مسؤولية الحكومة والقوى السياسية. وقد بدأت الشكوك تدور حول خلفيات نيات بعض القوى السياسية والطائفية المتعاطفة - او المرتبطة بمصالح مع الجامعات الخاصة - والتي قد يكون الهدف منها ضرب الجامعة اللبنانية التي لا تحترم التوازن الطائفي في عدد طلابها، ونسبياً في عدد الاساتذة والموظفين، نظراً لاعتبارات ديموغرافية، وطبقية، لا يمكن القفز فوقها.
واقع الجامعة اللبنانية قد يكون مُشابها، او افضل من الجامعات الفرنسية الرسمية (المدارس الكبرى) في كونها ملجأ للطلاب المتفوقين، لو قُدر للبنانية ان تحظى بالرعاية الرسمية التي تتوافر لنظيراتها الفرنسية، ولو كان لها أبٌ يرفع عنها عبء التفسخ الطائفي والمذهبي الثقيل.
امَّا تلازم صورة الجامعات الوطنية في مصر وليبيا وسوريا والعراق مع واقع الانظمة - حيث تراجع الجامعات ادى الى تراجع الانظمة - فهي مقاربة غير موفقة، وتشبيهٌ لا يمكن التسليم به مع واقع الحال في لبنان، فهناك اختلاف كبير في نمطية الواقع بين هذه الدول ولبنان. ولا يعني الامر ان الواقع اللبناني اكثر اريحية من الساحات العربية، ولكن الموضوعية تقضي الاشارة الى ليبرالية تعليمية - حتى في الجامعة اللبنانية - رسخت وجودها في لبنان، وكانت اقوى من التحديات السياسية، وساعدتها ارادة مناطقية وزعاماتية، تُدرك ان التطور العلمي لا ينمو إلا في إناء ٍمُحصَّن ونظيف.
المُعضِلة الكبرى في ازمة الجامعة اللبنانية، هي في صراعها منفردة مع تحديات العصر، وهي ترقصُ من دون عازفين على مسرح التطور الاكاديمي المُتسارع، بينما المسؤولون يعيرون دفّهم في يوم زفافها الى الجامعات الخاصة، التي تنعم بالمساعدات المالية السخية من المُقتدرين، ومن المانحين، وتحظى هذه الجامعات برعاية سياسيةٍ واسعة، ومن اعلى المستويات، بحيث لم يحضر عيد الجامعة اللبنانية الـ62 إلا القليل من المسؤولين، بينما حضر كبار الرؤساء والقادة احتفالات الجامعات الخاصة في الفترة ذاتها.
ومشكلة الجامعة اللبنانية التي تحتضن الاكفأ من بين علماء لبنان، ان موازنتها التي تُصرف على أساس القاعدة الاثني عشرية منذ 2005، لا تتساوى نسبياً مع موازنات الجامعات الخاصة التي تختلف معها في عدد الطلاب. امَّا في موازنة البحث العلمي فلا ضرورة لزيادة وجع القلب، اذا ما دخلنا بمندرجات المقارنة.
هل تخلت الدولة عن الجامعة اللبنانية، وأعارت دفّها العلمي الى جاراتها في الجامعات الخاصة؟ قد يتلاءم السؤال اكثر مع واقع الحال، من السؤال عن الانحطاط التربوي الاستراتيجي، الذي قد يكون من نسج الخيال.
لبنان ACGEN النهار تربية وتعليم