Thursday, 20 June 2013 - 12:00am
الأجواء الطائفية والمذهبية المشحونة تستحضر السجال حول كتاب التاريخ الموحّد. الإصرار على طيّ المواضيع الملتبسة ونسج التسويات السياسية ورمي جزء من الحقائق، يتكرر في كل فترة يلوح فيها شبح الحرب الأهلية. الكتاب ليس المشكلة الوحيدة، بل مقاربة الأستاذ غير الحيادية أيضاً. الأخير يحاكي غريزة التلميذ وعاطفته، لا تفكيره
النقدي
أيّ تاريخ نريد أن نعلّم في لبنان؟ لا جواب حتى الآن عن السؤال الأزلي ما دامت النية غير موجودة لتغيير أسلوب تعليم هذه المادة «الحساسة» كما يسميها التربويون. الأفكار المسبقة هي سيدة الموقف، فالتلامذة يحضرون إلى المدرسة مشبعين بمعلومات ومواقف استقوها من الأسرة والإعلام والمحيط الطائفي. الأستاذ لا يزال مصراً على تعليم وجهة نظره عبر تفسير إيديولوجي للأحداث التاريخية وإنتاج تلميذ نسخة عنه. القاعدة هنا حشو رؤوس التلامذة بمعلومات تاريخية تؤثر في توجهاتهم ومواقفهم. الذريعة هي أنّ الجو المشحون لا يسمح ببناء مهارات التفكير النقدي والتحليل والاستنتاج لدى التلميذ، فيما يفترض أنّ يكون العكس هو الصحيح أي أن يؤدي هذا الجو إلى استشعار الخطر وصنع قرار وطني في تعليم التاريخ.
يفسر المؤرخ د. مسعود الضاهر الواقع بالقول إنّ «معظم كتب التاريخ لها وجه طائفي، وليس هناك أرشيف وطني يستفيد منه المؤرخون لتأليف هذه الكتب». ويضيف: «بغياب كتاب التاريخ الموحد أصبح لدينا 20 سلسلة».
وبما أن الأجيال الصاعدة هي استنساخ لجيل الآباء، وكأن لا شيء يتغيّر، يبدو المستقبل مخيفاً، على ما يقول المخرج هادي زكاك. في كتاب التاريخ المعتمد حالياً في المدارس اللبنانية، يتوقف الزمن عند استقلال لبنان وجلاء القوات الأجنبيّة في عام 1946، وليس هناك أي معالجة للمراحل المعاصرة، «وكأن التاريخ مادّة تتناول الموت وليست مادة تدرس الواقع لأخذ العبر والتقدّم»، على حد تعبير زكاك. يبدو المخرج اللبناني مقتنعاً بأنّ كل المواضيع الملتبسة تطوى، «وهذا ما يجعلنا نستعيد في كل فترة شبح الحرب الأهليّة».
في فيلم «درس في التاريخ»، يرصد زكاك استنساخاً عبر الأجيال في مواقف شخصياته أو التلامذة المتنوعين طائفياً. أهم حدث تاريخي بالنسبة إلى أحدهم هو الجلاء العسكري للانتداب الفرنسي واستقلال لبنان، فيما يتحدث آخر عن حدثين مهمين، هما: الاستقلال والحرب اللبنانية. وتقول إحدى التلميذات إنّ تحرير الجنوب هو أهم حدث في تاريخ لبنان، بينما ترى أخرى أن الحدث التاريخي الأبرز هو خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005.
اختيار الزعيم التاريخي خاضع أيضاً لاعتبارات محض طائفية، ولا سيما في المدارس التابعة لجمعيات دينية مسيحية أو إسلامية. قد تصادف تلميذاً يختار كل «رجال الاستقلال» أي بشارة الخوري ورياض الصلح ومجيد أرسلان أو جمال عبد الناصر أو تشي غيفارا. لكن السمة الغالبة ليست كذلك. من الشخصيات المختارة: الشيخ بشارة الخوري، الرئيس رياض الصلح، الإمام الخميني، السيد حسن نصر الله، الرئيس بشير الجميل والأمير بشير الشهابي.
يستوقفك أن يكون بعض التلامذة واعين للعبة مصالح الدول الكبرى في لبنان، فيتحدثون عن صفقات تطبخ تحت الطاولة ويستنتجون أنّه ليست هناك دولة صديقة للبنان. بعضهم كان أكثر واقعية حين قال «كل طرف عندو دولة صديقة»، لتأتي غالبية الأجوبة مرتبطة بالبيئة التي ينتمي إليها التلميذ. سوريا وإيران من جهة، السعودية وقطر من جهة ثانية، وفرنسا وأميركا من جهة ثالثة.
اللافت أن يسترسل أحد الأساتذة في إيديولوجيا «الفرادة» اللبنانية المزيّفة لدرس الاستقلال، فيقول إنّ «النساء اللبنانيات شاركن في تظاهرات ضد الانتداب الفرنسي منذ عام 1943، فيما النساء في البلدان العربية المجاورة لا يتمتعن حتى اليوم بأي حقوق مدنية!».
التاريخ مادة سياسية، وخصوصاً في مجتمع مثل المجتمع اللبناني، يجزم أستاذ التاريخ د. جوزيف بو نهرا. لكن ليس هذا رأي بعض التربويين. يقول الرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث والإنماء د. نمر فريحة لـ«الأخبار»: «كتبنا المنهج الموحد لكتاب التاريخ الذي لا يزال في الأدراج، رغم الانتهاء من صياغته على قاعدة عدم الخوف من الحقيقة. نريد أن يعرف طلابنا كل ما حصل حتى لا يكرروه. المهمة كانت أخذ الحدث التاريخي من المؤرخ وصياغته بحسب عمر التلميذ. المطلوب كان تحضير الأدلة والمستندات التي تجعل التلميذ يقرأ ويحلل ويطبق ويولّف (صياغة خلاصة) لبناء ثقافة تاريخية. اللعبة بالتاريخ ليست الحدث، بل كيف نفسّر الحدث وكيف نقدمه للمتعلم ليتأثر به. لست هنا لأخبر قصة، بل لأعطي التلامذة فرصة أن يفهموا ويقتنعوا بمفاهيم وقيم وطنية معينة». لكن هل يلتقي اللبنانيون فعلاً حول قيم مشتركة في قراءتهم للأحداث التاريخية؟ يعوّل فريحة في ذلك على الدور الحيادي للأستاذ، فمهمة الأخير ليست «تشريب» تلميذه الإيديولوجيا التي يقتنع بها هو. السياسيون بتدخلهم بالأمور التربوية أفشلوا، برأيه، كل محاولات إصدار كتاب التاريخ الموحد.
الانقسام في المجتمع يحول دون الاتفاق على منهج تاريخ معاصر، تقول منسقة برنامج التطوير التربوي في الأنترناشيونال كولدج نايلة حمادة. برأيها، لا تزال الحرب الأهلية موضوعاً حامياً لتدريسه، «وإن كان ما يدرسه التلامذة اليوم في كتاب التاريخ لا يتناسب مع انتظاراتهم من هذه المادة. هؤلاء لديهم تساؤلاتهم بشأن الكثير من الأحداث والمواقف التاريخية، وآن الأوان لنتحمل المسؤولية الوطنية للإجابة عنها».
لكن القوى السياسية في السلطة، هي أطراف كانت أكثر من فاعلة في التاريخ المعاصر للبنان. ورواية ما حصل في هذه الفترة مختلف على تأويلها. أما المجتمع المدني فلا يزال يخطو خطواته الأولى، فهل تنجح الهيئة اللبنانية للتاريخ مثلاً في الضغط باتجاه إبصار كتاب التاريخ النور والمساهمة في توضيح المفاهيم التاريخية في إطار تعليمي علمي، كما جاء في أهدافها؟
ACGEN اجتماعيات الأخبار تربية وتعليم